من الممكن الحديث عن ثلاثة أبعاد للعلاقة بين التفكير العلمي والمجتمع المدني: بُعد تاريخي، وبُعد نظري، وبُعد عملي. سنتناول كل بُعد على حدة لإثبات صحة القضية المحورية التي بين أيدينا، وهي أن التفكير العلمي شرط ضروري لقيام أي مجتمع مدني.
تتضح ملامح البعد التاريخي للعلاقة بين التفكير العلمي والمجتمع المدني من خلال تسليط الضوء على العلاقة بين العلم من جهة، والتنوير من جهة أخرى، أو بعبارة أدق، بين الثورة العلمية التي شهدتها أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وما يُعرف باسم “عصر العقل” الذي بسط نفوذه على الحياة الثقافية الأوروبية في القرن الثامن عشر.
عندما نتحدث عن ثورة علمية، فإن من الطبيعي أن نتساءل: ثورة علمية على ماذا تحديداً؟ للإجابة عن هذا السؤال، يكفي أن نستعرض- بشكل سريع- إسهامات أبرز رواد تلك الثورة العلمية، وأعني بهم كوبرنيكوس، وجاليليو، وكبلر، ونيوتن. لقد دافع نيكولاس كوبرنيكوس في كتابه الشهير “حول دوران الأجرام السماوية” عن نظام فلكي شمسي المركز، مخالفاً بذلك نظام “بطليموس” أرضي المركز، ثم جاء جاليليو جاليليي ليدافع عن نظام كوبرنيكوس في كتابه “حوار حول نظامين رئيسيين عالميين”، وهو الكتاب الذي هاجم من خلاله أفكار “أرسطو” الفيزيائية، خصوصاً تلك المتعلقة بحركة الأجسام الأرضية، وأما جوهانز كبلر فقد تصدى لأفكار أرسطو الفلكية من خلال ما يعرف باسم قانون كبلر الأول، والذي يشير إلى أن مدار كل كوكب حول الشمس بيضاوي الشكل، لا دائري الشكل كما كان يعتقد أرسطو، وأما إسحق نيوتن فقد دلّل على خطأ فكرة أرسطو حول وجود اختلاف جذري بين حركة الأجسام الأرضية وحركة الأجرام السماوية، وذلك من خلال إثبات وجود علاقة رياضية بين قوانين كبلر وقوانين جاليليو.
نحن نرى، إذن، أن الثورة العلمية كانت في الأساس ثورة على أفكار أرسطو وبطليموس، ولقد كان لتلك الثورة مظهران أساسيان: الأول تقني، والآخر اجتماعي. أما المظهر التقني فيتمثل بأبرز ملامح التفكير العلمي، وأعني بها الملاحظة والفرضية والتجربة، فهذه هي المراحل الثلاث التي يمر بها المنهج العلمي، فالانتقال من الملاحظة إلى الفرضية يعبر عن فضول علمي، كما أن الانتقال من الفرضية إلى التجربة يعبر عن مسؤولية علمية، وأما المظهر الاجتماعي للثورة العلمية فيتمثل فيما يعرف بـ”الشخصية العامة للعلم”، أي أن النتائج التي يتوصل إليها العلم متاحة للجميع، وباستطاعة أي شخص التحقق منها من خلال إعادة التجربة مرة أخرى، وهذا ما يضمن نزاهة العلم، ذلك أن نزاهة العلم لا تعتمد على نزاهة العلماء بقدر اعتمادها على خشيتهم من تهمة عدم النزاهة!
أدت نجاحات الثورة العلمية إلى أمرين مهمين: الأول هو إثبات أهمية العقل كأداة فعالة للتوصل إلى معرفة حقيقية لعالم الطبيعة، والثاني هو التحرر من السلطة العلمية لأرسطو. كان لهذين الأمرين أثر بالغ الأهمية في مفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر، فإذا كان العقل أداة معرفية فعالة لاكتشاف قوانين الطبيعة، فلماذا لا يكون أيضا أداة معرفية فعالة لاكتشاف قوانين المجتمع؟ وإذا كانت شرعية السلطة العلمية لأرسطو قابلة للنقد والنقض، فلماذا لا تكون شرعية السلطة السياسية للحكام قابلة للنقد والنقض؟!
كان الحكام آنذاك- كما نعلم جميعاً- إما ملوكاً أو رهباناً، لذا فإن الملوك والرهبان هم أول من استشعر خطر أفكار التنوير، واستشعار الخطر هذا كان نقطة البداية للملاحقات السياسية المعروفة، فالفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، مثلا، هرب من باريس إلى إنكلترا بعد أن هاجم في كتابه “العقد الاجتماعي” ما يسمى بالحق الإلهي للملوك في السلطة!
لقد كان استخدام المنهج العقلاني-العلمي في الشأن السياسي-الاجتماعي نقطة الانطلاق للفلسفة السياسية بثوبها الحديث، ولا يمكن فهم عصر التنوير الأوروبي من دون فهم لعصر العلم السابق له، فالثورة العلمية مهدت الطريق أمام مونتسكيو، ولوك، وتوكوفيل، وغيرهم، لبناء الإطار النظري لمجتمعات ديمقراطية مدنية.
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق