بعد أن انتهينا من الحديث عن البعدين التاريخي والنظري للعلاقة بين التفكير العلمي والمجتمع المدني، سنتطرّق الآن إلى البعد العملي لهذه العلاقة، وسيدور الحديث حول مفهوم واحد فقط، وهو ما يسمى بـ”العقلانية العملية”، ولهذا المفهوم– حسب “هاري جنسلر”– ثلاثة أركان: الركن الأول هو التحقق من الوقائع، والركن الثاني هو عنصر الخيال، والركن الأخير هو مبدأ الاتساق. سأوضّح المقصود بكل ركن على حدة مستعينا ببعض الأمثلة.
التحقق من الوقائع يشير إلى أبسط قواعد التفكير النقدي بوجه عام، والتفكير العلمي بوجه خاص، فالفرد الذي يفكّر بطريقة نقدية لا يصدر الأحكام قبل التيقّن من حقيقة الوقائع، ومثله في ذلك مثل العلماء في اختبارهم للفرضيات العلمية من خلال التجربة، وسبق أن أشرنا إلى أنّ الانتقال من مرحلة الفرضية إلى مرحلة التجربة يعبّر عن مسؤولية علمية، لذا فإن التحقق من الوقائع يعبّر أيضا عن مسؤولية الفرد عن الأحكام والآراء التي تصدر عنه.
عنصر الخيال له مظهران: المظهر الأول هو أن يطرح الفرد على نفسه السؤال الافتراضي التالي: ماذا لو كنت في مكان شخص آخر؟ مثلا، ماذا لو كنت، كمواطن كويتي، في مكان أحد الكويتيين “البدون”، أعيش في وسط أحياء فقيرة، وأتعرّض إلى الضرب والترويع والسجن والإهانة، وأكابد مشقة الحياة بشكل يوميّ؟ لاحظ أن هذا أكثر من مجرد اعتراف بالحقائق، فالخيال يجبرك على الإحساس بمعاناة الآخر، وهنا يكمن الشعار الحقيقي لأي مجتمع مدني: حق الآخر، وليس حقك أنت فقط! أما المظهر الثاني لعنصر الخيال فمرتبط بالإجابة عن السؤال الاستباقي التالي: ماذا يترتب على كل قرار أنوي اتخاذه؟ التمعّن في عواقب كل قرار شرط ضروري لسلامة أي قرار، فالإنسان العقلاني لا يتخذ قرارا قبل أن يتخيّل طبيعة ما يترتب على هذا القرار.
مبدأ الاتساق مبدأ منطقي، وهو يشير إلى ضرورة أن تكون الأفكار التي يتبناها الفرد متناسقة مع بعضها بعضا بحيث لا يكون هناك أيّ تعارض فيما بينها، ولهذا المبدأ المنطقي ما يقابله في علم الأخلاق، وهو ما يعرف بـ”القانون الذهبي” الذي ينص على التالي: عامل الناس كما تحب أن تعامل!
بعد هذا التوضيح لمفهوم العقلانية العملية، سنرى الآن مدى ارتباطه بمفهوم المجتمع المدني من خلال الإشارة إلى الهجمة الشرسة التي شنّها بعضهم ضد “ملتقى النهضة”، فمن الواضح أنّ من هاجموا الملتقى فشلوا فشلا ذريعا في كل ركن من أركان العقلانية العملية! لم يتحققوا من الوقائع فسارعوا إلى ترديد أكذوبة أنّ الملتقى أقيم من أجل زعزعة نظام الحكم في دولة مجاورة، ولم يتحلّوا بالخيال فغاب عن أذهانهم أنّ أغلبية اليوم قد تتحول إلى أقلية الغد، وأنّ جلّاد الحاضر قد يستحيل إلى ضحية المستقبل، كما غابت عن أذهانهم أيضا عواقب قرار منع إقامة “ملتقى النهضة”، لتنتهي الأمور إلى عكس ما أرادوا تماما! أخيرا، إنّ من هاجموا الملتقى لم يفلحوا حتى في تطبيق أبسط القواعد الأخلاقية، فهم لم يعامِلوا الآخرين كما يحبوا هم أنفسهم أن يعامَلوا، ذلك أنهم يعتقدون أن من حقهم إقامة الندوات في الفضاء المفتوح، بينما لا يحق لغيرهم أن يقيم ندوة في غرف مغلقة!
أختم حديثي بفقرة ضمن مقال كتبته منذ بضع سنين، وهي فقرة يدور موضوعها حول مفهوم المجتمع المدني:
ليس من العار ألا يكون للمتشرد منزل يؤويه، ولكن العار في الرفض المبدئي لفكرة المنزل! شاءت الأقدار ألا ينتمي مفهوم «المجتمع المدني» إلى ثقافتنا العربية، ولكن لا ينبغي أن تثنينا هذه الحقيقة عن المحاولة في وضع حجر الأساس لمجتمع مدني عربي يعلي من شأن الفرد وكرامته، رغم التقاليد ورغم الطقوس! ربما تطلّب بناء مثل هذا المجتمع مئات السنين، ولكن عدم المحاولة سيتطلب الدهر كله! استغرق بناء كاتدرائية «دوومو» في قلب مدينة «ميلانو» خمسة قرون، فكم من الأجيال أفنت حياتها في تشييد بناء لم تتمكن من مشاهدته، ولكن ها هي «دوومو» تقف اليوم شامخة في سماء «ميلانو»، تذكّر أجيال اليوم بإخلاص أجيال الأمس!
هناك تعليقان (2):
يجب ان يغير الفرد طريقة تفكيره التقليدية الى التفكير العلمي و العقلاني
لانه من اهم مقومات المواطنة الصالحة
اذ انه اذا اتخذ الفرد هذة الطريقة في التفكير فانه سوف يستطيع ان يتخذ قراره بوضوح و دقة و اكثر صحة
لانه مع ظهور مصادر المعلومات المتنوعة و الاشاعات و الدعايات ينبغي ان نتأكد من صحة ما يقال
اعجبني المثال الذي تطرقت له في عنصر الخيال لانه باعتقادي اقرب للواقع
لكن يجب ان نجاهد انفسنا بان يكون الخيال في نطاق التفكير العلمي و العقلاني وليس في النطاق العاطفي و الوجداني
وشكرا للدكتور الفاضل فهد المطيري على هذا الموضوع المهم
و شكراا على اهتمامك بتجميع مقالات د.فهد المطيري
الشكر موصول لك اخت طالبة
إرسال تعليق