لبريطانيا العظمى أسلوبها المعروف في السيطرة على أيّ موقع جغرافي، فهي تبدأ أولاً بتحديد القيمة الاستراتيجية للبلد الذي تنوي السيطرة عليه، ثم تسعى بعد ذلك إلى إقامة علاقة وطيدة مع حاكم ذلك البلد، وقوام هذه العلاقة هو المنفعة المتبادلة بين الطرفين، فالحاكم سيضمن بقاءه في سدّة الحكم بالقدر الذي يتجاوب فيه مع المصالح البريطانية. أغلب البلدان التي دارت حول الفلك البريطاني استجابت لشروط هذه العلاقة، والكويت لم تكن استثناء.
كانت المصالح البريطانية في منطقة الخليج مجرّد مصالح تجارية في الأساس، وهذا ما تكشفه فحوى أولى الاتفاقيات التي وقعتها بريطانيا العظمى مع بعض الأسر الحاكمة في الخليج، فأعمال القرصنة التي اتخذت من ساحل الخليج مركزاً لها كانت تهدّد خط التجارة البحرية بين الهند وأوروبا، ممّا دفع البريطانيين إلى إرسال قوّة عسكرية إلى الساحل الإماراتي لتجفيف منابع القرصنة وحثّ حكّام المناطق المجاورة على التعاون معهم في التصدّي لهذه المشكلة. بعد أن أدركت بريطانيا أن دولاً استعمارية غيرها تهدف إلى بسط نفوذها على منطقة الخليج، تبدّل الطابع التجاري للمصالح البريطانية إلى طابع استراتيجي، فلجأت إلى نوع آخر من الاتفاقيات مع الأسر الحاكمة في المنطقة، وهي اتفاقيات تضمن جميعها بسط نفوذ بريطانيا وحدها على منطقة الخليج، ومن الجدير بالذكر أن الاتفاقيات التي وقّعها الشيخ مبارك الصباح مع بريطانيا العظمى تصب جميعها في هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال، تضمنت اتفاقية عام 1899 تعهّد الشيخ مبارك “بالالتزام في عدم السماح لأي ممثل عن أي سلطة أو حكومة خارجية بدخول الكويت، أو الإقامة ضمن حدودها، من دون إذن مسبق من طرف الحكومة البريطانية”، كما تضمنت اتفاقية عام 1907 حقّ بريطانيا في رفض فكرة أن تكون الكويت امتداداً لمشروع خط سكة الحديد بين برلين وبغداد، وهو الأمر الذي يكشف حرص بريطانيا على قطع الطريق أمام ألمانيا كي لا تجد موضع قدم لها في منطقة الخليج.
بطبيعة الحال، لم تكن السياسة الاحتكارية التي انتهجتها بريطانيا في الخليج من دون مقابل، فالأسر الحاكمة حصلت على وعود بريطانية بضمان بقائها في السلطة، وبالرغم من أنّ اتفاقية عام 1899 خلت من أيّ تعهّد بريطاني في حماية الكويت أو حكّامها، فإنّ هذه الحماية كانت متوافرة بصورة ضمنية من خلال التعهد الذي قدمه الشيخ مبارك للبريطانيين وإعطائهم مطلق الحرية في إدارة شؤون الكويت الخارجية، وفي مقابل ذلك تعزّز حكم الشيخ مبارك، ففي ظلّ الحماية البريطانية لم يعد يخشى من ردّة فعل الإمبراطورية العثمانية إزاء الطريقة التي وثب بواسطتها إلى السلطة.
بعد اكتشاف النفط في الكويت في العقد الثاني من القرن العشرين، تعزّزت السياسة الاحتكارية البريطانية، وتعزّزت معها الرغبة البريطانية في المحافظة على استمرار الأسرة الحاكمة في البقاء على رأس السلطة في مقابل الامتيازات النفطية المعروفة واحتفاظ الكويت بكميات كبيرة من الجنيه الإسترليني لدعم الاقتصاد البريطاني، بالإضافة أيضا إلى استثمارات هائلة في العاصمة البريطانية بأموال كويتية، ولم يعكّر صفو هذه العلاقة القائمة على المنفعة المتبادلة سوى وصول المد القومي إلى الكويت بعد الثورة الناصريّة في مصر، وهذا ما تؤكده الفقرة التالية التي جاءت في إحدى المراسلات السرية البريطانية ضمن الأرشيف البريطاني:
“ليس لدينا خيار سوى محاولة انتهاج سياسة حذرة في الوقت الراهن. إذا جاءت رياح التغيير إلى هنا (الكويت)، فعلينا أن نبذل كل ما بوسعنا لضمان مصالحنا، مما يجعل لزاما علينا أن نحرص على وقاية الأسرة الحاكمة من رياح التغيير في المنطقة، أو من احتمالية تبنّي الأسرة الحاكمة للأفكار القومية على حساب تقاربها معنا”.
يتبع،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق