في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كانت بريطانيا تتعرض لضغوط هائلة للتخلّي عن سياستها الاحتكارية في منطقة الخليج، فمن جهة هناك الولايات المتحدة الأميركية التي لم تكن لترضى بأقل من نصيب الأسد في خيرات الخليج، ومن جهة أخرى هناك المد القومي الذي اجتاح دول المنطقة ولامس قلوب شعوبها، وقد عبّر عن هذه الضغوط الخارجية وزير الخارجية البريطاني آنذاك “سلوين لويد” بقوله: “إذا لم نخط إلى الأمام، فسيجبرنا الآخرون على فعل ذلك”، والخطوة إلى الأمام كانت تعني التفكير المتعمق بمستقبل المنطقة، أي بكيفية الانتقال من مرحلة الحماية البريطانية إلى مرحلة استقلال الإمارات الخليجية، وتكشف الوثائق البريطانية عن انقسام حاد حول هذه النقطة، فبينما كان يرى ممثلا بريطانيا في بغداد وطهران أن الوقت قد حان لمنح الإمارات الخليجية استقلالها من خلال إقامة فدرالية خليجية، كان المقيم البريطاني في البحرين مخالفاً لهذا التوجه، لكن الطرفين اتفقا على أنه إذا كان لا بد من منح هذه الدويلات استقلالها، فعلى بريطانيا أن تحافظ على بقاء هذه الدويلات بطريقة تضمن استمرار التأثير البريطاني وحماية مصالح “حكومة جلالة الملكة”، الأمر الذي يعني- حسب الوثائق البريطانية- حماية هذه الدويلات بعد استقلالها من الأخطار الخارجية، كأن يتم ضمها إلى دول مجاورة مثل العراق والمملكة العربية السعودية، ومن الأخطار الداخلية، كأن تتعرض الأسر الحاكمة إلى محاولات انقلاب تحت تأثير المد القومي.
أمام هذا الاختلاف في الرأي حول مستقبل الإمارات الخليجية، حاول وزير الخارجية “سلوين لويد” أن يقدم رأياً متوازناً، ولعل من المفيد أن أنقل وجهة نظره هنا من الإنكليزية إلى العربية مع مقدار بسيط من التصرف لضرورات الترجمة:
“في رأيي، لا بد أن نتخذ منهجاً وسطاً مع ميل بسيط إلى وجهة نظر المقيم السياسي في البحرين. أنا لست مع فكرة إقامة فدرالية خليجية لأن حكام الخليج أنفسهم ضد هذه الفكرة، كما أني ضد أن تنضم هذه الدويلات بعد استقلالها إلى “معاهدة بغداد” للسبب نفسه، بالإضافة أيضاً إلى أننا لا نريد أن نواجه ردّة فعل في الكويت كتلك التي واجهناها في الأردن في عام 1955. لكن، من جهة أخرى، أعتقد أن علينا أن نكون أكثر واقعية، فالعالم يتغير من حولنا، ولهذا السبب علينا أن نكون مستعدين لإحداث تغييرات في سياستنا في المنطقة بطريقة تتناسب مع حجم التغيرات العالمية”.
كان مستقبل العلاقات البريطانية مع الكويت أكثر إلحاحاً من مستقبل علاقات بريطانيا مع الإمارات الخليجية الأخرى، ففي عام 1957 كانت الكويت تنتج حوالي 54 مليون طن من النفط، أي ثمانية أضعاف حصة كل من البحرين وقطر من إنتاج النفط، وأما ما كانت تسمى آنذاك بـ”دول المعاهدة” (الإمارات العربية المتحدة) فلم تكن منتجة للنفط. كانت حصة الكويت من إنتاج النفط تذهب مناصفة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وأما الإيرادات فكانت توازي 109 ملايين جنيه إسترليني، أي خمسة أضعاف إيرادات النفط في كل من البحرين وقطر.
كانت بريطانيا تخشى من توتر علاقاتها مع الشيخ عبدالله السالم بعد مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر، لكن تبين لها أن خشيتها لم يكن لها ما يبررها، فها هو المقيم البريطاني يؤكد في وثيقة سرية بتاريخ 7 يونيو من عام 1957 ما يلي: “لا يبدو أن مشاركتنا في التدخل في مصر أثرت كثيراً على علاقتنا مع حكام الخليج، وقد قدم حاكم الكويت (الشيخ عبدالله السالم) دليلاً على ذلك من خلال مقابلتنا معه في الآونة الأخيرة، فقد طلب منّا النصيحة حول مسألة توارث الإمارة واستعرضنا معه عدداً من المرشحين في خلافته في الحكم، كما أنه أبدى ارتياحه من طريقة استثمار الأموال الكويتية في لندن”.
كانت بريطانيا تخشى من الفشل في تأمين انتقال الكويت من الحماية إلى الاستقلال، والوثائق البريطانية تكشف عن مجموعة من الأفكار الوقائية لتأمين هذا الانتقال، مثل فكرة إنشاء صندوق كويتي للتنمية العربية لكسب ودّ الحكومات العربية وشعوبها، والحرص على دعم حكم أسرة الصباح من خلال تعزيز صورة الكويت كدولة رفاه لتفويت الفرصة على “البروباغندا القومية” من استمالة قلوب الكويتيين، والسماح بوجود ديمقراطية محدودة من خلال إنشاء مجلس للأمة، وتوفير قوة عسكرية بريطانية قادرة على ردع أي عدوان خارجي على الكويت. سوف نتطرق إلى هذه الأفكار وغيرها في المقال القادم.
يتبع،،،
هناك 3 تعليقات:
طرح متميز و متمكن كالعادة..
واصل الإبداع د.فهد
بانتظار الجزء التالي
شكرا أخ ناصر على الجهد
دمت بود،،
أهلا اخت دلال
العفو ،، وشرفتينا بزيارتك ،،
يعطيك العافيه يادكتور. باإنتظار الجزء الثالث.
إرسال تعليق