ضمن الوثائق البريطانية، هناك تقرير مطوّل حول الأوضاع الداخلية للإمارات الخليجية، أعدّه مكتب وزير الخارجية البريطاني في 7 يونيو من عام 1957، والفقرة التالية هي من ضمن ما جاء فيه: “عاجلا أو آجلا، ستصبح المطالبات الشعبية بالإصلاح أكثر قوة وإلحاحا بحيث تفرض تغييراً في النظام الأبوي الحالي الذي يسود نظم الحكم في المنطقة، ونأمل أن تتحلّى الأسر الحاكمة بقدر من الشجاعة والحكمة للتوصل إلى رأي معتدل يتيح لها التعامل مع تلك المطالب الشعبية، وبهذه الطريقة ستتمكن من تفويت الفرصة على قوى المعارضة ومنعها من محاولة قلب أنظمة الحكم في المنطقة، وهو احتمال قائم سيستدعي في حالة حدوثه التدخل الفوري من جانبنا، وسيكون الخيار عندها صعبا جدا. ينبغى التذكير أن مقيمنا السياسي في المنطقة يعتقد أن الكويت هي المرشحة الأولى لمثل هذا السيناريو”. ثم يشرح التقرير كيفية التعامل مع هذه المشكلة في الفقرة التالية: “لا بدّ من تشجيع حكّام الخليج على تأسيس حكمهم على قبول شعبي واسع بقدر الإمكان لضمان بقائهم في سدة الحكم، مع التأكيد طبعا على ضرورة تجنب أي تدخل بريطاني مكشوف في الشؤون الداخلية، كما لا بدّ من اقتناص أي فرصة سانحة في استخدام علاقتنا مع هؤلاء الحكّام باتجاه دفعهم إلى تبني سياسات تضمن كفاءة الحكومة إلى جانب مشاركة شعبية نسبية في شؤون الحكم”. تؤكد الوثائق البريطانية أيضا حقيقة أنّ الكويت قامت فعلا بخطوات عملية في هذا الاتجاه تحت قيادة الشيخ عبدالله السالم، فهناك إشارة إلى دعوة وجّهها الشيخ في عام 1959 إلى رجل القانون الشهير عبدالرزاق السنهوري لزيارة الكويت والمساهمة في تطوير نظامها القانوني ووضع دستور للكويت، كما تشير الوثائق أيضا إلى مباركة البريطانيين لنهج عبدالله السالم في إنشاء “دولة رفاه حديثة” وإتاحة الفرصة في إقامة مجلس تأسيسي، وبالرغم من أهمية مثل هذه الخطوات العملية في استقرار نظام الحكم في الكويت، فإنها لم تكن لتزيل خشية البريطانيين من عدم استقرار الوضع الداخلي بعد انتقال الكويت من الحماية إلى الاستقلال، ففي وثيقة بريطانية مؤرخة بتاريخ 2 أكتوبر من عام 1961، أي بعد استقلال الكويت بأشهر معدودة، هناك قلق بريطاني واضح من عدم استقرار نظام الحكم: “المسار السياسي الوحيد الذي أمام الأمير (الشيخ عبدالله السالم) كي يقلل من التهديدات التي تحيق بالكويت هو أن يتبنّى سياسة من شأنها تعزيز قوة نظام حكمه داخليا، وجعله مقبولا لدى الرأي العام في داخل الكويت وخارجها. بالرغم من أنّ الكويت تحوّلت فعلا إلى دولة رفاه، فإنّ إدارتها لشؤون الدولة مازالت قريبة من الإدارة الإقطاعية، لكنّ الأمير الآن مصمم على تحديث إدارته للبلاد بالتعاون مع بعثة البنك الدولي التي وصلت إلى الكويت مؤخرا. إنّ المحاولات السابقة في إرساء دعائم الديمقراطية لم تسفر عن نتائج ملحوظة، لكن تم الإعلان مؤخرا عن نبأ إقامة انتخابات لمجلس تأسيسي في ديسمبر المقبل”. ثم تنتقل الوثيقة البريطانية إلى مناقشة تأمين الوضع الخارجي للكويت بعد استقلالها، خصوصا تلك المتعلقة بالخطر القومي: “إن سياسة الكويت الاستثمارية في الدول العربية أمر بالغ الأهمية، ففي الوقت الراهن (1961) تتمركز معظم استثمارات الكويت في سوق لندن، والقليل المتبقي منها يذهب إلى أميركا وغرب أوروبا، وأما الدول العربية فلا تستفيد من هذه الاستثمارات إلا بالقدر الضئيل جدا. لطالما كانت هذه الحقيقة محلّ عتب شديد من قبل الأنظمة العربية، ومن الواضح أن السلطات الكويتية تفكر جديا الآن في زيادة حجم استثماراتها في الدول العربية. إن تعزيز مثل هذا البرنامج الاستثماري بأموال كويتية ضخمة من شأنه دعم استقرار الكويت، خصوصا من جهة الجمهورية العربية المتحدة والأردن اللتين هما في حاجة ماسة إلى تمويل خارجي، وبالتالي من شأن هذا البرنامج الاستثماري الحد من خطر المد القومي على الكويت وتقليص التذمر العربي من مصالحنا الاقتصادية والنفطية في الكويت”. إلى جانب الأفكار الوقائية السابقة التي تهدف إلى تأمين انتقال الكويت من الحماية إلى الاستقلال تحت حكم أسرة الصباح، تشير الوثائق البريطانية أيضا إلى خطة توفير قوة عسكرية بريطانية قادرة على ردع أي عدوان خارجي على الكويت، خصوصا في ظل التهديدات العراقية بعد نجاح ثورة عبدالكريم قاسم في 14 يوليو من عام 1958، والمساهمة أيضا في تدريب عناصر الجيش الكويتي بطريقة تضمن صموده لمدة 36 ساعة فقط أمام أي عدوان عراقي محتمل، وهي المدة اللازمة قبل جلب القوة البريطانية المرابطة في البحرين. أخيرا، ينبغي الإشارة إلى أن كل هذه الأفكار الوقائية تحققت على أرض الواقع، وهو أمر لا يكشف فقط عن حجم المنفعة المتبادلة بين أسرة الحكم وبريطانيا، بل يشير أيضا إلى صورة مغايرة عن الشيخ عبدالله السالم، صورة تختلف كثيرا عن تلك التي نجدها في كتب التاريخ المحلية، وسنحاول أن نستكشف ملامح هذه الصورة في مقال قادم تحت عنوان: “عبدالله السالم: الوجه الآخر”.
هناك تعليق واحد:
طرح شيق و موفق
و لو أنه لدي بعض التساؤلات
جهد واضح أخ ناصر..استمر
إرسال تعليق