يبدو أن لغة التخوين هي السائدة في الساحة السياسية المحلية، فالمطالبة المشروعة بإمارة دستورية حقيقية لا يُنظر إليها بوصفها خطوة مهمة على طريق الإصلاح السياسي، بل مجرّد مطالبة مشبوهة باغتصاب الحكم من أسياده! لكن من هم أسياد الحكم حسب الدستور؟ المادة (6) من الدستور تنص على أنّ الشعب “مصدر السلطات جميعا”، والشعب هو أنت وأنا، إنه نحن! إذا كان هذا صحيحاً، وهو صحيح من الناحية النظرية على الأقل، فإنّ المنطق لا يقف إلى جانب أصحاب لغة التخوين (وما أكثرهم هذه الأيام!)، ذلك أنّ من يطالبون اليوم بإمارة دستورية حقيقية يمثّلون شريحة كبيرة نسبياً من الشعب، والشعب هو السلطة، ومن يملك السلطة لا يطلبها، فمثلما أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فإنّ مالك الشيء لا يطلبه.
لكن لو نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، أي من ناحية عمليّة محضة، فإن لغة التخوين تبدو منطقية جدّا! إنّ اتهام المطالبين بإمارة دستورية بالسعي إلى انتزاع السلطة يتضمّن افتراضا مفاده أنّ الشعب لا يحكم، وهو افتراض صحيح، فنحن في واقع الأمر لا نحكم إلاّ من خلال البرلمان، وسلطة البرلمان محدودة جدّا إذا ما قيست بسلطة البرلمان في النظم الديمقراطية الحقيقية، بل إنّ الدستور الكويتي نفسه يضفي مشروعية على ضعف سلطة البرلمان من خلال الاستدراك الذي تحتويه المادة (6) من الدستور، والذي يشير إلى أنّ ممارسة الشعب لسلطته يجب أن تكون حسب الوجه المبيّن بالدستور، ولا حاجة إلى تذكير القارئ بالحجم المتواضع للسلطة التي يمنحها الدستور للشعب!
إذا كانت لغة التخوين تستند إلى افتراض صحيح، فهل هذا يعني أنّ أصحابها على صواب؟ السؤال نفسه بصيغة أخرى: إذا كان الشعب لا يحكم، فهل المطالبة بإمارة دستورية خيانة عظمى؟ لنفترض أنّ ثمّة خيانة فعلاً، ولنطرح السؤال البسيط التالي: خيانة بحقّ من تحديداً؟ بحقّ الوطن؟ ما الوطن إلاّ نحن، وبالتالي إذا كان ثمّة خيانة، فلا بدّ أن تكون خيانة بحقّ الذات، لكن هناك فرق شاسع بين خيانة الذات وتطويرها، فالمطالبة بإمارة دستورية حقيقية ليست سوى تطوير لذات الوطن، أي لذواتنا نحن أفراد الشعب! هل هي خيانة بحقّ الأجيال السابقة؟ لكن من تواضعوا على صياغة الدستور أقرّوا هم أنفسهم تطويره إلى المزيد من الحرّيات، والمطالبة بإمارة دستورية حقيقية تنسجم تماماً مع هذا المنحى، ثمّ من منحنا الحقّ في إجبار شباب اليوم على الالتزام باتفاق لم يكونوا أبداً طرفاً فيه؟
إنّ المطالبة بإمارة دستورية حقيقية خطوة مهمة على الطريق الصحيح، لكنها خطوة جبّارة تحتاج إلى المزيد من الجهد لتحقيقها، وهو جهد لا ينبغي أن يكتفي “برفع الشعارات السياسية”، بل يتجاوز ذلك إلى “المبادرة بالدعوة إلى نقاش عام جاد ومسؤول تشترك فيه القوى السياسية والشبابية كافة”، كما أشار زميلنا الفاضل الدكتور بدر الديحاني في مقال له هنا في “الجريدة” تحت عنوان “إمارة دستورية…كيف؟”، فمن يدري؟ ربمّا يتيح مثل هذا النقاش الفرصة أمامنا جميعاً إلى وضع تصوّر عام حول مفاهيم حيوية مثل “الإمارة الدستورية”، و”تداول السلطة”، وخصوصاً مفهوم “المجتمع المدني”، وهو المفهوم الذي يبدو أنّ أغلب التيارات الدينية لم تتمكن من استيعابه بعد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق