كلّ سؤال شائك له إجابة بسيطة، لكنها عادة ما تكون إجابة خاطئة، والسؤال التالي ينتمي إلى هذا النوع من الأسئلة: ماذا يعني أن تكون "مدنيّاً"؟ أن تكون مدنيّاً معناه أن تنتمي إلى مدينة ما، فالمدنيّ هو مَن يسكن المدينة، والقرويّ هو مَن يسكن القرية. هذه الإجابة السطحية تقوم على تعارض جغرافي بين الإنسان المدنيّ والإنسان القرويّ، وهي إجابة خاطئة لأنّ القبول بصحّتها يؤدّي إلى نتائج لا يمكن القبول بصحّتها، فمثلاً، من الصعب أن نسبغ على "جاك السفّاح" صفة "المدنيّة" لمجرّد أنّه كان من قاطني لندن، بينما ننتزع هذه الصفة من الأب "سان مانويل" لمجرّد أنّه كان يعيش في قرية من قرى قشتالة النائية.
لكن لماذا نذهب بعيداً؟ أليس من العسير أيضا أن نطلق صفة "مدنيّ" على مَن يسرق خيرات هذا البلد لمجرد أنّه يقطن داخل أسوار المدينة، بينما ننتزع هذه الصفة عمّن ضحّى بحياته فداء لهذه الأرض لمجرد أنّه يقطن خلف أسوار المدينة؟ أليست ثنائية (حضر - بدو) مظهراً من مظاهر الإجابة السطحية سالفة الذكر؟ أَوَليس صحيحاً أنّ من شأن هذه الثنائية أنْ تجعل من اللصّ نبيلاً، ومن البطل صعلوكاً؟
مدنيّة أيّ فرد لا تحدّدها البقعة الجغرافية التي يعيش عليها، بل تحدّدها قدرة الفرد على التعايش مع مَن يشاطرونه العيش على تلك البقعة، ولهذا التعايش شروط يفرضها مفهوم "المدينة" نفسه، فما يميّز أي مدينة هو احتضانها لأفراد ذوي مشارب مختلفة، وما يميّز هؤلاء الأفراد هو قدرتهم على التعايش رغم اختلافاتهم، ومن هنا فإن إنشاء المدن إنجاز حضاريّ لا يليق إلاّ بفصيلة الإنسان، فالمدينة هي الغابة الوحيدة المسالمة على وجه الأرض، أو هكذا ينبغي أن تكون!
إنّ تعريف مفهوم "المدنيّة" من خلال البعد الجغرافي يجعل من المدنيّة صفة مطلقة، وهي ليست كذلك، بينما تعريف هذا المفهوم من خلال البعد الاجتماعي يجعل من المدنيّة سلوكاً نسبيّاً، وهي كذلك فعلاً، فأنت إنسان مدنيّ بالقدر الذي تنجح فيه في التعايش مع الآخر، والنجاح في أيّ شيء– كما نعلم جميعاً– أمر نسبيّ بالضرورة.
على ضوء ما تقدّم، يُمكن القول إنّ أيّ فعل أو سلوك يُخلّ بمبدأ التعايش مع الآخر لا يمكن أن يكون امتداداً لمفهوم المدنيّة (أي لا يمكن وصفه بفعل أو سلوك مدنيّ)، ابتداء بجرائم القتل والسرقة والاغتصاب، مروراً بالسلوكيّات الأخلاقية المشينة مثل الكذب والغش والخداع، وانتهاء بتصرفات تنم عن رعونة مثل قيادة السيارة بسرعة جنونية! بالمثل، أيّ فعل أو سلوك يعزّز مبدأ التعايش مع الآخر يصبح تلقائيا امتداداً لمفهوم المدنيّة، فالمطالبة باحترام القانون وتطبيقه على الجميع، والتأكيد على مبدأ العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، والتظاهر السلميّ في سبيل إرساء الديمقراطية وتداول السلطة، كلّها ممارسات تدلّ على مدنيّة الدولة ومواطنيها.
بَقيَ أن نشير إلى أنّ التعارض التقليدي بين مفهوم المدنيّة ومفهوم الدين يعود في حقيقة الأمر إلى تعارض حول تحديد طبيعة الأساس الذي يقوم عليه مبدأ التعايش مع الآخر، فالمدنيّة تتخذ من العقل وقوانينه أساساً لتحديد الشروط الملائمة للتعايش بين الأفراد، بينما يتخذ الدين من النص وأحكامه أساساً لتحديد تلك الشروط، وبالرغم من أنّ هذا التعارض ليس مطلقاً، فإنّ هناك نقاط اختلاف كثيرة، فالإنسان المتديّن يرى في تعدّد الزوجات، مثلاً، أمراً مشروعاً لا يخلّ بمبدأ التعايش مع الآخر، بينما يراه الإنسان المدنيّ أمراً مرفوضاً لا يستقيم مع هذا المبدأ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق