يحتوي الخطاب السياسي على مفاهيمَ قد تبدو "بريئة" للوهلة الأولى، لكن ما إنْ نُخضع هذه المفاهيم إلى التحليل حتى يتبيّن لنا ما تنطوي عليه من خطورة، ومفهوم "الأغلبية الصامتة" ينتمي إلى هذا النوع من المفاهيم. ما يلي إعادة صياغة لبعض الأفكار الشخصية القديمة حول هذا المفهوم.
المعنى الأصلي لتعبير "الأغلبية الصامتة" يشير إلى "الأموات"، حيث ورد هذا التعبير في إلياذة "هوميروس" في سياق وصف القتلى من الجنود في حرب طروادة. لست أخفي إعجابي الشديد بهذا الوصف الدقيق للأموات، فهم فعلاً أغلبية صامتة، ذلك أنّ عددهم يفوق بكثير عدد الأحياء، وهم أيضا لا ينبسون ببنت شفة! عندما تكون الأغلبية أمواتاً، يسهل علينا نحن الأقليّة من الأحياء الحديث نيابة عنهم، فمهما وضعنا في أفواههم ما لم ينطقوا به، فإننا سنظل مطمئنين إلى استحالة سماع صرخة احتجاج يدوّي صداها أرجاء القبور، وهنا تحديداً يكمن منبع كل سلطة تعتمد على الماضي في حكم الحاضر، وعلى النصوص في حكم الشخوص.
استورد الرئيس الأميركي الأسبق "ريتشارد نيكسون" مصطلح "الأغلبية الصامتة" من عالم الأموات واستثمره في عالم الأحياء، فعندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع احتجاجاً على الحرب في فيتنام، ألقى الرئيس خطاباً يؤكد من خلاله أن الأغلبية الصامتة من الشعب الأميركي تقف إلى جانب استمرار الحرب في فيتنام! تهافت هذه الحجة أوضح من أن يحتاج إلى شرح، فعدم التظاهر ضد استمرار الحرب لا يعني بالضرورة التأييد لاستمرارها، ورغم ذلك مازال الاستشهاد برأي الأغلبية الصامتة حول أي قضية عامة عملة رائجة في عالم السياسة منذ أيام "نيكسون" إلى وقتنا الحاضر.
من الطبيعي وجود أغلبية صامتة في نظام شمولي، فالدكتاتور لا يحب سماع صوت رعيته إلاّ عندما تهتف له، ولكن كيف نبرّر منطقيّاً وجود مثل هذه الأغلبية في نظام ديمقراطي؟ السؤال نفسه بصيغة أخرى: كيف نفسّر صمت الأغلبية في نظام ديمقراطي يقوم على فكرة تجسيد إرادة الأغلبية؟ لا أملك إجابة شافية عن هذا السؤال، ولكن يبدو أن الاستفتاء العام هو الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها اختبار مدى صحة الاستشهاد برأي الأغلبية، ورغم الاعتراف بوجود صعوبة عملية في استخدام هذه الأداة، فإن أحداً لن يتورع عن الحديث نيابة عن الأغلبية الصامتة إنْ هي استمرت في رفضها الخروج عن صمتها.
لكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه، ما في ذلك شك، ولكن هل لكل إنسان الحق في عدم التعبير عن رأيه؟ من الصعب أن تكون "لا" هي إجابة القارئ، إلاّ إذا كان محققاً أو وكيل نيابة في دولة قمعية، ولكن إذا كانت الإجابة هي "نعم"، أي إذا كان لي الحق في عدم التعبير عن رأيي، ثم اخترت استخدام هذا الحق، فعندها يصبح من حق الآخرين أيضا الحديث نيابة عني، ففي الحياة الخاصة، يكون الصمت في بعض الأحيان لوناً من ألوان الحكمة، ولكنه في الحياة العامة ليس إلاّ ضرباً من ضروب الانتحار.
عندما تكون هناك دعوة إلى التظاهر حول مسألة تمس الجميع، ثم أختار الجلوس في البيت، فإني بخياري هذا قد وهبت الحق للسلطة السياسية في الحديث نيابة عني، ذلك أن خيار الجلوس في البيت يجعلني تلقائياً في خانة "الأغلبية الصامتة"، وهي أغلبية لا تسكن إلاّ القبور، على حد تعبير "هوميروس".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق