إذا كان لنا أن نلخّص ما جرى في مصر في جملة واحدة، فإننا نقول إنّ الشعب المصري العظيم فَرَض القانون بالقوة بعد أن حاول الرئيس المخلوع فَرْض القوة بالقانون. لقد ارتكب الرئيس السابق عدداً من الأخطاء القاتلة التي لم ينكر هو نفسه بعضاً منها، وهناك بطبيعة الحال من حاول مراراً وتكراراً إفشال تجربة الإخوان المسلمين في الحكم، لكن هذا لا ينفي حقيقة أن الرئيس وأعضاء حزبه ساهموا بغباء منقطع النظير في تأجيج الشارع المصري، فمحاولة الرئيس وحزبه تغيير قواعد اللعبة السياسية من طرف واحد، والخطاب السياسي المفتقر إلى أدنى درجات الحصافة السياسية، وتأجيج النعرات الطائفية والدعوات التكفيرية، وعدم الاكتراث باحتواء الأطياف السياسية المعارضة، كلها أخطاء لا يمكن إلصاقها بخصوم الرئيس وأعضاء حزبه، بل هي أخطاء تيار لم تشفع له شيخوخته التاريخية في تجاوز مراهقته السياسية.
إن مشكلة كل التيارات الشمولية، ومن ضمنها التيارات الإسلامية، هي اعتقادها بأنّ هوية الحاكم تحدّد طريقة الحكم، ولهذا السبب تحديداً يتمسك أنصار هذه التيارات الشمولية بمفهوم الديمقراطية المطلقة دون أدنى اعتبار لحقيقة أن الديمقراطية التي لا يكبح جماحها سوى "شرعية الصندوق" ليست سوى وجه آخر من وجوه الدكتاتورية.
هناك فرق كبير بين شرعية الحاكم وشرعية الحكم، فالأولى يحددها الصندوق، والثانية يحددها الدستور. قد يستمد الدكتاتور شرعيته من الصندوق، لكن هذا لا يجعل من الدكتاتورية طريقة مشروعة في الحكم! شرعية الصندوق أنتجت "هتلر" لكنها لا تبرّر نازيته، وشرعية الصندوق أنتجت "موسوليني" لكنها لا تبرّر فاشيته، وشرعية الصندوق أنتجت "مرسي" لكنها لا تبرّر طائفيته، ذلك أنّ شرعية الصندوق تقتصر فقط على تحديد هوية من يحكم، وأما كيفية الحكم فيحددها الدستور الذي يهدف إلى ضمان التعايش السلمي والعادل بين أفراد المجتمع الواحد.
لقد حاول الرئيس المخلوع احتواء حالة الاحتقان الشديد في الشارع المصري من خلال خطابات رئاسية تدّعي مخاطبة المصريين بكل أطيافهم، لكنّ الأغلبية العظمى من الشعب المصري فقدت الثقة برئيسها، فكيف يثق الشعب برئيس يحضر مؤتمرا طائفيا يصف الشيعة بالأنجاس من دون أن يعرب عن أدنى اعتراض؟ وكيف يثق الشعب برئيس يقسم على احترام القانون ثم يضع نفسه فوق القانون؟ بل كيف يثق الشعب بحزب يتعهد بعدم خوض الانتخابات الرئاسية ثم ينكث بعهده؟
إنّ الذين يصفون ما حدث في مصر بالانقلاب العسكري يتجاهلون الدعوات المتكررة التي أطلقها الجيش المصري في الشهر الماضي إلى الحوار بين الأحزاب السياسية كافة ورفضها الرئيس وحزبه، كما يتجاهلون أيضا حقيقة أن الجيش لم يتخذ قرار التدخل لفرض القانون بالقوة بمفرده، بل جاء بعد مشاورات مع أطياف الشعب المصري كافة، ثم نأى بنفسه عن مسؤولية الحكم ليضعها في يد القضاء المصري. إنّ من يصف ما حدث في مصر بالانقلاب العسكري يفترض ضمناً أنّ شرعية الحاكم تعلو على شرعية الحكم، وإلاّ ما معنى تجاهل الأخطاء القاتلة في طريقة الرئيس في حكم البلاد بحجة أنّه جاء عن طريق صناديق الاقتراع؟ هل من المعقول أنّ تبرّر شرعية الصندوق للدكتاتور الاستمرار في دكتاتوريته إلى نهاية فترة رئاسته؟!
إن مصر هي بلد التعددية التي تجسدت في ميدان التحرير وغيره من الميادين في أنحاء مصر قاطبة، حيث نجد السني والشيعي واليساري واليميني والمسيحي واللاديني جنبا إلى جنب، بينما يقف على الطرف الآخر أفراد على ملة واحدة، فالعبرة الحقيقية ليست بعدد المتظاهرين في كلا الفريقين، بل بمدى تجسيد كليهما للتعددية التي تعكس الوجه الحضاري للمجتمع المصري، كما تعكس أيضا مقدار تسامحه، لكنه تسامح له حدود، فالقنوات الدينية التي دأبت على تكفير الخصوم السياسيين وبث روح الفرقة بين أبناء الشعب الواحد خليقة بأن يتم إغلاقها بالقوة، فلا تسامح مع اللاتسامح أبداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق