قرب الحدود بين إسبانيا والبرتغال، هناك مكان يسمّونه "لاس باتويكاس"، تحفّه الأشجار من كل جانب، ويمر به جدول صغير، لكن ما يميّز المكان هو الدير الذي يقع في قمة تل، حيث يعيش عدد من الرهبان في عزلة أبدية! للدير موردان من الرزق: هبات المحسنين، وتأجير بعض الغرف لمن أراد الهروب المؤقت من صخب الحياة ومشاغلها، وقد اعتدت الذهاب إلى هناك والمبيت ليلة أو ليلتين كلما سنحت الفرصة، وفي كل مرة أزور فيها الدير، يلفت انتباهي راهب ليس كبقية الرهبان، إذ كنت أراه دائماً جالساً وحده، وكأنه لم يكتف بهذه العزلة عن العالم الخارجي فجعل يعزل نفسه أيضاً عن أقرانه في الدير!
اقتربت منه متلطفاً يدفعني الفضول، وكم أدهشني بغزارة علمه، ودماثة خلقه، وبشاشة محيّاه! تحدثنا في كل شيء تقريباً، عدا الدين، إلى أن انتهينا إلى قصة "بابا نويل"، وما سمعته من الراهب حول تلك القصة يختلف تماماً عمّا قرأته من قبل. تحدّث الراهب قائلاً:
"كانت هناك قرية لا يسكنها إلا الأطفال، لكنهم أطفال يمتازون بخيال خصب، ولعل هذه الميزة هي السبب وراء المشكلات التي عانوها فيما بعد، ففي يوم من الأيام، دبّت الفُرقة بين أطفال القرية، واشتدت الخصومة بينهم فانقسموا إلى ثلاثة فرق: فريق يزعم أن بابا نويل لا يأتي بالهدايا إلا لهم وحدهم، وفريق ثان يؤكد أن لبابا نويل أشكالاً مختلفة، لكنه يأتي بالهدايا للجميع، أما الفريق الثالث من الأطفال فيصر على أن بابا نويل لا مثيل له، والهدايا هي من نصيبهم هم وحدهم"!
ثم يتابع الراهب:
"استمرت الخصومة بين الأطفال وقتاً طويلاً، ولم تزدهم تلك الخصومة إلا انقساماً على انقسام، وما اتحدوا قط إلا في شيء واحد: الجميع في انتظار بابا نويل وكيسه المليء بالهدايا، لكن الهدايا لم تصل بعد، وأحسب أنها لن تصل أبداً! أعظم هدية هي أن تدرك أن ليس ثمة هدية، وهذا بالضبط ما عجز الأطفال المساكين عن فهمه واستيعابه، فلو أدركوا هذه الحقيقة لاستحالت الخصومة فيما بينهم إلى صداقة دائمة، ولانقلبت عبودية الانتظار إلى حرية الاختيار"!
قام الراهب من مكانه ملقياً عليّ تحية الوداع، فأسرعت أسأله: "هل أنت أحد أفراد تلك القرية؟" تبسم الراهب وأجاب: "كنت!".
قبل أن يخفيه الظلام عائداً إلى مخدعه، توقف الراهب ليقول: "تذكر أنها قرية أطفال، وأنا لم أعد طفلاً"!
(إسبانيا، 1996)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق