تمتاز أغلب التحوّلات التاريخيّة بخصلتين على الأقل، البطء والنسبية، ولعلّ انحسار دور الكنيسة في المجتمع الأوروبي هو المثال الأبرز على هذا النوع من التحوّلات التاريخية، ولهذا الانحسار أسباب متعدّدة، بعضها داخلي، أي من داخل الدين المسيحي، وبعضها خارجي، وسنحاول من خلال هذا المقال استعراض بعض الأسباب الداخلية لهذا التحوّل التاريخي، مرجئين الأسباب الخارجية إلى المقال القادم.
أولاً، هناك ردّة الفعل النفسية التي صاحبت انتشار وباء مرض الطاعون في أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر، فبعد أن حصد المرض مئات الألوف من الأرواح البشرية، برزت نبرة احتجاج لم تكن معهودة بين عامة الناس ضد تعاليم الكنيسة، وقد جسّد هذه النبرة الاحتجاجية سؤال ملحّ اكتسب لاحقا أهمية فلسفية في روايات دوستويفسكي، والسؤال يتعلّق بمدى ضرورة أن يتعذّب الناس (مهما بلغت ذنوبهم) إلى هذه الدرجة المؤسفة في ظل وجود قدرة إلهية لا متناهية! بالطبع، هذا السبب لم يكن كافيا لترك الدين، ولكنه يكتسب قوة خاصة عندما نضيف إليه بقية الأسباب التالي ذكرها.
ثانياً، كان لانشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية وخروجه على سلطة البابا تبعات خطيرة، فهذا الانشقاق لم يؤدّ فقط إلى ظهور طائفة جديدة اسمها الطائفة البروتستية، بل أدّى كذلك إلى حروب طائفية اجتاحت أوروبا على فترات زمنية منذ منتصف القرن السادس عشر، وتلك الحروب بدورها أدتّ في آخر المطاف إلى نتيجة حتمية، وهي أن الحروب الدينية لن تحسم من يملك الحقيقة، بل هي تحسم فقط من هو الأقوى ومن هو الأضعف. كانت هذه النظرة هي السائدة مع بدايات القرن السابع عشر، وقد ساهمت في إعادة النظر في حقيقة الدين المسيحي نفسه.
ثالثاً، لعل أهم سبب في هذا التحول التاريخي لدور الكنيسة يكمن في فساد رجال الكنيسة أنفسهم، ولو رجعنا إلى كتاب "الأمير" لميكيافيللي لوجدنا نقداً لاذعاً لرجال الكنيسة وفساد ذممهم، فالرشوة المالية، والانحلال الأخلاقي، والانغماس في ملذّات الحياة، كلها أمور كانت مرتبطة بصورة رجل الدين في أذهان العامة من الناس، كما أنّ دور البابا آنذاك بعقد تحالفات سياسية مع طرف ضد الآخر لم يكن خافياً، ومن المعروف أن كلّ من يحضر إلى مائدة البابا، كان يحرص على عدم الشرب من نبيذ البابا، خوفاً من أن يموت مسموماً!
يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق