اشتهر الدكتور زغلول النجار بتسويق مفهوم "الإعجاز العلمي"، وبالنظر إلى الرواج الهائل للكتب التي تتحدث حول هذا الموضوع، فإنه من الواضح أن الدكتور نجح إلى حدّ كبير في هذا التسويق، لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا هو التالي: هل كان من الممكن أن يلقى مفهوم "الإعجاز العلمي" رواجاً كبيراً في ظل وجود مجتمع يتمتع أفراده بالحد الأدنى من المعرفة العلمية؟ بمعنى آخر، أليست هناك علاقة سببية بين رواج مفهوم "الإعجاز العلمي" من جهة، وكساد مفهوم "فلسفة العلم" من جهة أخرى؟
الدفاع عن مقولات "الإعجاز العلمي" يفترض وجود معرفة مسبقة بمعنى العلم الحديث، فضلاً عن تاريخه وفلسفته، لكن يبدو أن هذه المعرفة غير ضرورية عند أمّة مهووسة بنيل السبق في كل شيء، أمّة "فازت بكل شيء وخسرت كل شيء" كما يقول الشاعر الإسباني، فما إنْ يظهر اكتشاف علمي حتى يتصدى له زغلول النجار وغيره من المقلدين قائلين: "ليس هذا بالأمر الجديد، إنما هو مذكور منذ ما يزيد على 1400 سنة!"، مثل هذا الكلام غير المسؤول له دلالات خطيرة، وما يلي بعض منها.
أولاً، هناك احتقار واضح للعلم الحديث والتقليل من شأنه، فالذي لا يأتي بجديد على مسامعنا خليق ألا تفتتن به قلوبنا، وسبق أن عبّر الدكتور زغلول النجار عن ذلك في مقابلة تلفزيونية بقوله إن السبب في انشغاله بموضوع "الإعجاز العلمي" يعود إلى حقيقة افتتان الناس بالعلوم المادية الحديثة! بدلاً من أن يأتي الدكتور بالدليل على أن قديم النص يشير في واقع الأمر إلى جديد العلم، انتقل إلى الحديث عن مفهوم "فلسفة العلم"، وهو حديث مليء بالمغالطات، ففلسفة العلم لا تعني للدكتور ما تعنيه لكل مشتغل في هذا الميدان، فهي لا تعني محاولة فهم آلية المنهج العلمي وطبيعة التفسير العلمي، بل هي تعني بالنسبة إليه مجرد دعوة إلى التأمل في الحكمة الكامنة خلف الحقائق العلمية، بمعنى آخر، على العلماء أن يتوصلوا إلى الحقائق العلمية، وعلينا نحن استخلاص الحكمة من ورائها!
ثانياً، لا تأتي مقولات "الإعجاز العلمي" إلا بأثر رجعي، كما يقول الدكتور فؤاد زكريا، وهي لهذا السبب بالذات تعتبر مقولات عقيمة. ما الفائدة من أن يردد البعض بعد كل اكتشاف علمي قائلين إنّه اكتشاف مذكور منذ أكثر من 1400 سنة؟ إنّ الغرض من ذلك معروف، فهو يدل على محاولة غير مبررة لإثبات صحة الدين، وهنا تكمن المشكلة، فبينما يستمد العلم قوته من خلال إجراء التجارب للتحقق من صحة نظرياته، نجد أن قيمة الإيمان مرهونة بعدم محاولة إثباته على الإطلاق. لو قلت -مثلاً- إني أؤمن إيماناً مطلقاً بأن هناك وردة حمراء في حديقة المنزل، وهي وردة لم يسبق لي قط أن رأيتها، فإن إيماني في هذه الحالة ذو قيمة، لكن ما إنْ أخرج إلى حديقة المنزل للتحقق من وجود تلك الوردة الحمراء حتى تتلاشى قيمة إيماني، إذْ ما قيمة هذا الإيمان إذا كانت الوردة موجودة بالفعل أمام ناظري؟ الإيمان بشيء ما ممكن فقط إذا كان هذا الشيء غير خاضع للإثبات، أما عملية جلب الأشياء وفحصها على طاولة المختبر فتقع خارج نطاق الإيمان، بل إنها تتعارض مع فكرة الإيمان أساساً!
ثالثاً، إنّ وضع الدين في موضع المتطفل على العلم فيه مضرة للدين نفسه، والتأكيد على صحة الدين من خلال الاكتشافات العلمية الحديثة إنما هو تأكيد على عجزنا وجهلنا طوال قرون خلت، كما أن الاستشهاد بالعلم لمصلحة الدين لا يخلو من خطورة، ذلك أن من المعروف أن العلم لا يستنكف من تصحيح ذاته، وهذا يقودنا إلى إمكانية أن يرفض العلم "حقيقة" علمية كان قد أقرّها من قبل! أضف إلى ذلك أن العلم لا يكون علماً إلا بعد أن يكون خاضعاً لـ"مبدأ التزييف"، أما مفهوم "الدين" فيتعارض اصطلاحياً مع هذا المبدأ.
أخيراً، ينبغي لكل نقاش جاد حول مفهوم "الإعجاز العلمي" أن يبدأ بتحليل هذا المفهوم وفحص مقولاته من خلال الأدوات التي تتيحها فلسفة العلم، وهذا ما سنحاول القيام به في المقال القادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق