المظاهرة، بوصفها وسيلة احتجاج مشروعة، تعكس حيوية المجتمعات البشرية ومدى تفاعلها مع الأزمات التي تمر بها، كما أنها تشير أيضا إلى الأولوية التي يضفيها كل مجتمع على قضاياه المصيرية. في هذا المقال أريد أن أسلّط الضوء على حقيقة أنّ مفهوم التظاهر لدينا يفتقر إلى الإنسان في المقام الأول، وإلى العقل في المقام الثاني.
كلّنا يذكر خروج المواطنين إلى الشوارع في مسيرات عارمة احتجاجا على مرسوم الصوت الواحد، وكلّنا يعرف مدى القمع الذي تعرّض له بعض المواطنين من جرّاء المشاركة في تلك المظاهرات، وكلّنا أيضا يدرك حجم الغضب الشعبي الناتج عن محاولة السلطة الانتقاص من كرامة المواطن، لكن بالرغم من كل ذلك، تبقى الحقيقة المرّة المتمثلة بالسؤال التالي: أين تلك الأعداد الغفيرة من قضايا تفوق من حيث الأهمية قضية كرامة المواطن، ذلك أنها قضايا تتعلّق بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان؟
لماذا، مثلا، لم نسمع قط عن مظاهرة شعبية كويتية دفاعا عن حقوق العمالة الأجنبية وتنديدا بظروفها المعيشية المزرية؟ لماذا نقف متفرجين على قمع أجهزة الأمن لمظاهرات "البدون"؟ لماذا لا ننتفض للأخبار التي نقرؤها في الصحف عن اختطاف أطفال صغار واغتصابهم وقتلهم بدم بارد؟ هل من المعقول أنّ هذه الأمور كلها مجرد أمور تافهة لا تستدعي الخروج إلى الشارع؟ من المؤسف حقا أنّه طبقا للقاعدة السائدة حاليا، كي يخرج المرء إلى الشارع يجب أن تكون هناك قضايا لا تقل أهمية عن رسوم كارتونية أو دوائر انتخابية أو قروض استهلاكية (أشعر بالقرف لمجرد عقد مثل هذه المقارنة)!
في الكويت أيضا، دأب التيار الإسلامي طوال عقود من الزمن على حشد المظاهرات المندّدة بقضايا يقتصر ضحاياها على المسلمين فقط، فالإنسان في قاموس "الإسلام السياسي" هو "الإنسان المسلم"، وأمّا مَن لم يكن الإسلام له ديناً فهو أقلّ آدميّة! كيف من الممكن، مثلا، أنّ نصدّق غضبهم من انتهاك حقوق الإنسان يبنما غضبهم هذا مرهون بهوية هذا الإنسان؟ شهدنا مظاهرات تنتصر لحقوق الإنسان السوري، وهي مظاهرات واجبة من دون أدنى شك، لكن في المقابل لم نسمع حتى عن تنديد أو استنكار لما يتعرّض له الإنسان الأوكراني، مثلا! ليس في الأمر سرّ، فالإنسان السوري المسلم إنسان كامل الآدمية، وأمّا ما عداه فلا يستحقّ حتى أن نلتفت إليه!
في الكويت أيضا، من المستحيل حتى أن نتخيل وجود مظاهرة شعبية أمام مبنى وزارة التربية كاحتجاج على تدني المستوى التعليمي وفقر المناهج الدراسية، ومهما أنس فلن أنسى ما نشرته إحدى الصحف المحليّة قبل سنوات حول اعتصام بعض أولياء الأمور احتجاجا على التقييم المدرسي للطلاب، حيث عبّر جميعهم عن امتعاضهم لهذا التقييم وما ينطوي عليه من ظلم للطالب، لكنّ أحدا لم يتطرق على الإطلاق إلى نوعية المعلومة الدراسية التي تقدم للطلاب ومدى استفادتهم منها، فبالنسبة إلى أولياء الأمور ما يهم هو أن ينجح الطالب، وأما ماذا درس تحديدا فهذا أمر لا يسترعي الانتباه! طبقا لعقلية معظم أولياء الأمور، جميل أن يحصل الطالب على الدرجة الكاملة في مادة الفيزياء، لكن لا يهم معرفة أن شكل الذرة الذي تعلمه في منهج الفيزياء فاقد للصلاحية منذ مئة عام! لا أحد يبدو مكترثا بحقيقة أن مناهجنا الدراسية تقول نصف الحقيقة وتشوه النصف الآخر، حيث يدرس الطالب مادة الأحياء ولا يسمع عن "داروين"، ويدرس مادة التربية الإسلامية ولا يسمع عن "ثورة القرامطة"، ويدرس مادة المنطق ولا يسمع عن "جودل"! ماركس وفرويد مجرد يهود حاقدين، وكوبرنيكوس وداروين مجرد حمقى يدّعون ما لم ينزل الله به من سلطان!