في عام 1938، وضع طه حسين كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر"، وفي عام 1964، وضع سيّد قطب كتابه الشهير "معالم في الطريق". إذا كان لنا أن نقارن بين هذين الكتابين، فإن أبرز وجه من وجوه المقارنة يشير إلى تنافر واضح بين عقلانية طه حسين ولاعقلانية سيّد قطب، وسنتناول من خلال هذا المقال بعض ملامح هذا التنافر الذي ما انفكّ يتجدد في ثقافتنا العربية، وإنْ اتخذ أشكالاً مختلفة.
يبرز أول ملمح من ملامح العقلانية عند طه حسين من خلال تأكيده في مقدمة الكتاب حقيقة أنّ ما يقدمّه للقارئ بشكل عام، وللشباب الجامعي المصري بشكل خاص، لا يعدو أن يكون رأيا خاصا يحتمل الصواب أو الخطأ. يقول العميد: "من يدري! لعل هذا الكتاب كله أو بعضه سيقع موقعاً حسناً من بعض الذين إليهم أمور التعليم، ولعلهم أن يأخذوا ببعض ما فيه من رأي". ثم يتابع: "ومن يدري! لعل هذا الكتاب كله أو بعضه أن يقع موقعاً سيئاً من بعض الناس، ولعلهم أن ينقدوه، وأن يثيروا حوله هذا الجدل الخصب، الذي يجلي وجه الحق في كثير من الأحيان".
في مقابل هذا التواضع العقلي الذي تمليه أبجديات المنهج العقلاني، نجد على الطرف الآخر ادعاءً زائفاً بامتلاك الحقيقة التي لا يشوبها أيّ شك، ذلك أنّ سيّد قطب يزعم في بداية كتابه أنّ "البعث الإسلامي" لا بدّ له من "طليعة" من الشباب المسلم، "ولا بد لهذه الطليعة... من معالم في الطريق"، كما لا بد لهذه المعالم أن تستند إلى التصوّر الإسلامي الذي تصل إليه "الصفوة المختارة"، ولا ريب في أنّ سيّد قطب رأى نفسه واحداً من تلك "الصفوة المختارة"، ذلك أنّه يقدّم إلى تلك الطليعة "معالم تعرف منها طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصلب غايتها، ونقطة البدء في الرحلة الطويلة"، "ثم تعرف من أين تتلقى... وكيف تتلقى؟"، ثم يختم سيّد قطب مقدمة الكتاب راجياً أن يأتيَ بالمزيد من المعالم في المستقبل "كلما هداني الله إلى معالم هذا الطريق"!
نحن نرى، إذن، أنه بينما يقدّم طه حسين رأيا خاصا حول مستقبل الثقافة في مصر، فإنّ سيّد قطب يقدّم معالم تنير الطريق أمام الأمة الإسلامية برمتها لتصحبها نحو الزعامة أو "تسلّم قيادة البشرية" حسب تعبيره. إزاء هذه الفاشية التي تطمح إلى التفوق والصدارة، وإلى "الخلافة في الأرض"، وإلى احتقار شعوب الأرض "وقهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها"، أقول إزاء هذه الفاشية نرى على الطرف الآخر نظرة تطمح إلى المساواة والعدل بين شعوب الأرض كافة، فطه حسين يؤكد في كتابه سالف الذكر "أنّ نظام المساواة في الحقوق والواجبات... في حياتنا الداخلية هو بعينه النظام الذي يجب أن نقرّه في حياتنا الخارجية"، إذ "يجب أن نمحوَ من أنفسنا أنّ في الأرض شعوباً قد خُلقت لتسودنا، ويجب أن نمحوَ من أنفسنا أنّ في الأرض شعوباً قد خُلقت لنسودها".
شتّان بين نظرتين تقدّم إحداهما رأياً يحتمل الخطأ حول المستقبل الثقافي لشعب، بينما تقدّم الأخرى خارطة طريق لا تحتمل إلاّ الصواب حول مصير شعوب بأكملها، ولعلّ مردّ هذا التنافر يكمن في طبيعة المنهج الذي تستقي منه كل نظرة على حدة، فمن المعروف أثر الديكارتية في النتاج الفكري لطه حسين، خصوصا فيما يتعلّق بمفهوم "الشك" كأداة معرفية، كما أنّ "ديمقراطية المعرفة" التي نجدها عند ديكارت تقابلها "ديمقراطية التعليم" التي نجدها عند طه حسين، فالأول بدأ كتابه الشهير "خطاب المنهج" قائلا "إنّ العقل أعدل أشياء الكون توزّعا بين الناس"، والثاني جعل من الأخد بأسباب هذا العقل (أي التعليم) متاحاً لكل الناس على حدّ سواء. بالمقابل، نجد في "معالم في الطريق" دعوة إلى تعليم مقيّد بالتصوّر الإسلامي للعالم من حولنا، وهي دعوة لا تريد منّا أن نسمع أو نقرأ إلاّ ما يتوافق مع معتقداتنا، وأمّا المنهج الذي استقى منه سيد قطب أفكاره الفاشية، واهتدى بواسطته إلى المعالم المؤدية إلى طريق الخلاص، فقد أوجزه في جملة واحدة عندما كتب يقول: "إنّ المنهج في الإسلام هو الحقيقة، ولا انفصام بينهما"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق