"ريتشارد فاينمان" أشهر من نار على علم، فبالإضافة إلى أن جائزة نوبل شرفت بأن يكون هذا الفيزيائي الفذ واحداً ممن حصلوا عليها، فإنّ محاضراته مازالت معيناً لا ينضب من المعرفة بعد أن قام عدد من تلامذته بنشرها في ثلاثة مجلدات، ولست أتخيّل وجود مكتبة جامعية محترمة لا تحتوي على نسخة من تلك المجلدات التي كُتبت بطريقة سلسة ومثيرة للإعجاب. في إحدى محاضراته المصورة، يشرح "فاينمان" طبيعة قوانين الفيزياء، ثمّ يبيّن الخطوات التي من خلالها يصل العلماء عادة إلى اكتشاف تلك القوانين، فالخطوة الأولى تتمثل في محاولة تخمين قانون استناداً إلى المعطيات الأولية التي تتيحها الملاحظة العلمية، والخطوة الثانية هي محاولة تحديد عدد من النتائج المترتبة على افتراض صحة هذا القانون، وأما الخطوة الأخيرة فهي إجراء التجربة للتحقق من صحة تلك النتائج، فإذا أثبتت التجربة خطأ النتائج، أصبح من الضروري منطقياً أن يكون القانون خاطئاً أيضاً، وأمّا إذا أثبتت التجربة صحة تلك النتائج، فإن من المحتمل منطقياً أن يكون القانون صحيحاً أيضاً.
ثمّ يضيف "فاينمان" عبارة خليقة بأن تُكتب بماء الذهب: "لن يكون بوسعنا أبداً أن نكون على يقين من أننا على صواب، لكن بوسعنا أن نكون على يقين من أننا على خطأ"! لنتوقف قليلاً عند هذه العبارة العميقة التي تشير إلى أهم فضيلة من فضائل العلم، وأعني بها فضيلة التواضع المعرفي، ولهذا النوع من التواضع ملامح يجدر بنا التمعن بها.
أولاً، مفهوم التواضع في نظرية الأخلاق يختلف اختلافاً جوهرياً عن مفهوم التواضع في نظرية المعرفة، فالأول يعبّر عن فضيلة مكتسبة تُمليها أحيانا قواعد التربية، وأما التواضع المعرفي فيشير إلى حتمية منطقية تُمليها دائماً قوانين المنطق، فالمغالطة المنطقية التي تعرف باسم "تأكيد التالي" هي المسؤولة عن حتمية القصور المعرفي بحقيقة الأشياء من حولنا (سبق أن أشرنا إلى هذه المغالطة المنطقية في مقالات سابقة).
ثانياً، القاعدة التي يستند إليها التواضع المعرفي تختلف اختلافاً جوهرياً عن القاعدة الفقهية التي تقرر أن "كلّ ما بُنيَ على باطل فهو باطل"، ولهذا الاختلاف وجهان: الوجه الأول، هو أنّ هذه القاعدة الفقهية مخالفة لقوانين المنطق، ذلك أنّ أيّ مبتدئ في علم المنطق يعلم جيداً أنّ بالإمكان التوصّل إلى استنتاج صحيح قائم على مقدمات خاطئة (مثلا: مقدمة 1: الكويتيون كائنات فضائية، مقدمة 2: الكائنات الفضائية بشر، استنتاج: الكويتيون بشر)، وأمّا الوجه الثاني، فيشير إلى حقيقة أنّ هذه القاعدة الفقهية تستلزم لإثبات صحتها إثبات صحة افتراضها (أي صحة أن البناء باطل)، وهذا النوع من الإثبات المباشر للمقدمات لا يتوافر في أغلب الأحيان عندما يتعلق الأمر بالنظريات العلمية وبمبادئها العامة، فإحدى أهم نتائج "الوضعية المنطقية" هي حقيقة أنّ العلم غير معنيّ بإثبات مبادئه أو افتراضاته العامة، بل هو معنيّ فقط بإثبات ما يترتب على تلك المبادئ أو الافتراضات، فالعلماء – مثلا – لم يحتفوا بالنظرية النسبية العامة لأنهم استطاعوا رؤية تقوّس المكان من حولهم، بل لأنّهم استطاعوا اختبار صحة ما ينتج عن مبدأ تقوّس المكان، مثل انحراف الضوء عن مساره بالقرب من الشمس أثناء فترة الكسوف.
أخيراً، لعلّ أهم ملمح من ملامح فضيلة التواضع المعرفي هو أنها فضيلة تقف على النقيض من نقيصة اليقين الدوغمائي، الأمر الذي يفسّر كثرة استخدام مفردات الشك أو الاحتمال في الكتب العلمية الرصينة (مثل: "يبدو"، "ربما"، "لعلّ"، "على الأرجح"، إلخ)، وكثرة استخدام تعابير اليقين في الكتب غير العلمية بشكل عام، وكتب التراث بشكل خاص (مثل: "ثبت قطعاً"، "إجماع العلماء"، "مما لا شك فيه"، "لا ريب"، إلخ).
فضيلة العلم هي هذا التواضع المعرفي الذي يستجيب له العلماء مجبرين بدافع احترامهم لعقولهم، ونقيصة الدوغما بكل أنواعها هي هذا التعجرف المعرفي الذي يستهوي أولئك الذين يجدون في الجهل مرتعاً لعقولهم، وما أصدق المتنبي حين قال:
"ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق