بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير كان من المتأمّل أن تستفيد مصر من دروس الماضي فتعمل على إرساء دولة المؤسسات التي لا تهتمّ بهوية الحاكم بقدر اهتمامها بتحديد كيفيّة الحُكم، أو بعبارة أخرى، لا تلتفت إلى صفات الرئيس بقدر التفاتها إلى حجم السلطة المرتبطة بكرسي الرئاسة، لكن يبدو أنّ قَدرَ مصر هو قَدرُ حُكّامها، فمنذ فجر التاريخ ارتبط اسم مصر بأسماء حُكّامها، كما يبدو أنّ العقل المصري ما زال يعاني عقدة "الزعيم"، فعلى الرغم من التجربة المريرة التي خاضها الشعب المصري تحت وطأة حكم الإخوان المسلمين، لا يزال الشعار القديم جذّابا منذ هزيمة 1967: "ماتسيبناش يا رّيس"!
من يجب أن يحكم مصر؟ هذا سؤال كارثيّ بكل المقاييس، والإجابات التي يُحيلنا إليها هذا السؤال لا تقلّ عنه كارثيّة، فكلّ من يقرأ "كارل بوبر" يدرك جيدا أن السؤال بصيغته الحالية يدفعنا إلى البحث عن إجابات سلطوية وسطحية، مثل "الأفضل"، أو "الأقوى"، أو "الأذكى"... إلخ، فالسؤال كما نرى يربط بين مصدر الحُكم وأهليّة الحاكم، من دون وجود سبب مقنع لمثل هذا الربط، فإذا كنّا نعتقد أن القوة، مثلاً، هي مصدر الحكم، فإننا سنميل إلى الاعتقاد بأن القوي هو الإنسان المؤهل للحكم، من دون أن نقدم أي نوع من التبرير المنطقي لهذا الربط بين مقدار القوة ومشروعية الحُكم.
لتفادي هذا الخلل المتمثل بالربط غير المنطقي بين مصدر الحكم وهوية الحاكم، يقترح "بوبر" إعادة صياغة السؤال على النحو التالي: كيف يمكن تنظيم مؤسسات الدولة بطريقة تساهم في تقليص الضرر الناتج عن وجود حاكم سيئ في سدة الحكم؟ صياغة السؤال بهذه الطريقة لا تهتم بهوية الحاكم بقدر اهتمامها بتحديد كيفية الحكم، ولعلّ الدستور المصريّ الجديد تدراك هذه النقطة بعد تجربة "مرسي" الفاشلة في الحكم، لكنّ الأمر الذي يبعث على القلق حقّا هو هذه الحالة الراهنة من عدم الانسجام بين مسار الثورة المصرية ومسار الإعلام المصري بشكل عام، فالثورة التي ما فتئت تلفظ طاغية بعد طاغية أفسحت الطريق لإعلام الفلول الذي يعمل ليل نهار على خلق طاغية جديد.
رغم مرور أكثر من نصف قرن على نشوئها، ما زالت علاقة التصادم التاريخي بين العسكر و"الإخوان" تحتفظ بحيويّتها، وما زالت هذه العلاقة أيضا تقف في وجه كل مشروع إصلاحي حقيقي يهدف إلى بناء مجتمع ديمقراطي مدني على الخريطة العربية، لكن مهما يكن من شيء فإنّ أملنا في مصر وأهلها كبير لا يخالجه أيّ شك، وعسى ألا تكرّر مصر أخطاءها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق