إنّ مناصبة العداء للرمزية والتفكير المجرّد في تراثنا الإسلامي بلغت من القوة حداً أصبحنا فيه عاجزين عن رصد الخط الفاصل بين الواقع والخيال. لو حاولت، مثلاً، أن تقرأ قصة على شخص غير متعلم، فإن أول سؤال يتبادر إلى ذهنه بعد سماع القصة هو: متى حدث هذا؟ إنّ مثل هذا السؤال يعكس فقراً في فهم ما تعنيه كلمة "خيال"، وهو فقر ناتج عن مناصبة العداء للرمزية في تراثنا.
هل أتيحت لك الفرصة في مشاهدة رمي الجمرات أثناء أداء مناسك الحج؟ أنت ترى بعض الحجاج يرمون بقسوة واضحة ذلك العمود المشيّد في وسط الدائرة، بل إنّ منهم من يذهب إلى أبعد من ذلك ليخاطب ذلك العمود بكلمات فيها من التهديد والوعيد الكثير! لا عجب ولا غرابة، فهذه النوعية من الحجاج لا ترى الرمز الذي يشير إليه ذلك العمود المشيّد، بل الشيطان ذاته!
إليك مثالا آخر من واقع تجربتي القصيرة في سلك التدريس، فعندما أبدأ حديثي قائلاً: "لنفترض أنّ كذا وكذا"، يأتيني الرد من بعض الطلاب محتجين: "ما الفائدة من افتراض شيء لم يحدث على أرض الواقع؟". هذا سؤال يفضح حجم المأساة التي تعانيها العلوم المجردة في نظامنا التعليمي، مثل الرياضيات والمنطق والفلسفة، فالطالب الذي يجهل أهمية الافتراض يجهل بالضرورة أهمية مثل تلك العلوم. من جهة أخرى، لست أبالغ لو قلت إنّ أغلب الطلاب يواجه مشكلة حقيقية في استيعاب التفكير المجرد، وهو نمط من أنماط التفكير الذي لا يهتم بالتفاصيل بقدر اهتمامه بالعموميات، فعندما تأتي بأمثلة محدّدة لفكرة مجردة، فإن الطالب عادة يتشبّث بالأمثلة وينسى الفكرة، ليكون بذلك مثل الطفل الذي يعرف أنّ تفاحة + تفاحة= تفاحتين، لكنّه يجهل في الوقت نفسه أنّ 1 + 1= 2، وإلاّ ما معنى أن يبدأ طالب إجابته عن سؤال في الاختبار من خلال طرح مثال؟ مثال على ماذا؟ لا أحد يعرف!
لعلّ أبرز مظهر من مظاهر العداء للرمزية في تراثنا الإسلامي هو اعتماد التفسير الحرفي، لا الرمزي، للنصوص الدينية، مع عدم مبالاة بالحقائق العلمية والتفكير المنطقي السليم• لنأخذ- على سبيل المثال- مفهوم "السماء" كما ورد في القرآن، فالمعروف أن المفسرين الأوائل لم يجدوا مشكلة في تحديد هذا المفهوم بـ"السقف" الذي نراه أمام أعيننا، لكن في الوقت الحالي ليس بوسع أي رجل دين يحترم عقله إلا أن يبحث عن تفسير آخر أقل مادية من كلمة "سقف"، ذلك أنّ أبجديات العلم تحتّم علينا أن نبحث عن الرمز الذي تشير إليه كلمة "السماء"، وأن نلغي إلى الأبد التفسير السطحي المباشر لهذه الكلمة، ففي نهاية المطاف، ذلك اللون الأزرق فوق رؤوسنا ليس سوى غاز مليء بالشقوق والفروج، كما أنه ليس في حاجة إلى أعمدة كي يبقى في مكانه، فقانون الجاذبية يكفي لهذا الغرض.
يؤكد الشيخ "صالح الفوزان" بكل ثقة قائلاً إنّ "الأرض ثابتة عكس ما يقوله جهلة الفلكيين اليوم"، ولا أدري ما رأي الفلكيين ممن درسوا علم الفلك الحديث ثم التزموا الصمت أمام هذه الإهانة لهم ولما تعلّموه، لكن ما أدريه هو أنّ "كوبرنيكوس"، لو بُعث من قبره وسمع ما يقوله الفوزان، لظنّ أنه لم يلبث في قبره إلا يوماً أو بعض يوم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق