بئس الثقافة التي نعيشها هذه الأيام، والتي لم تعد تعني بحثاً مخلصاً عن الحقيقة أينما وُجدت، بل أضحت مجرّد اصطفاف غير مشروط مع أيديولوجية ضد أخرى، وهذا ما نراه واضحا جليّاً منذ أوّل يوم تهاوى فيه "الإخوان المسلمين" عن عرش مصر، فمنذ ذلك الحين أصبح الشأن المصري غير قابل للقسمة على أكثر من اثنين، فإما أن يكون المرء مع "الانقلاب" ضد "الشرعية"، أو أن يكون مع "الإرهاب" ضد "الوطن"، وكأنّ خيار الوقوف مع الثورة ضد "الإخوان" والعسكر معاً أمرٌ مستحيل منطقيّاً، فإمّا أن تكون "إخواني الهوى" فتفوزَ بلقب "المثقف الحقيقي"، وإمّا أن تكون "سيسيّ الهوى" فتظفرَ بلقب "المصري الحقيقي"، لكن إنْ حدّثتك نفسك في الرغبة عن هذا وذاك، إنْ حملتك الجرأة على رفع شعار "لا للإخوان، لا للعسكر"، إنْ أجبرك عقلك على رفض دكتاتورية الفرد ودكتاتورية الجماعة، فأنت حينئذ أحد اثنين: إما أنّك تنتمي إلى طابور "المثقفين المزيّفين"، أو أنّك تنتمي إلى "الخلايا النائمة"!
ترتفع الأصوات هذه الأيام من كلا الطرفين مندّدة بكلّ من تسوّل له نفسه "الوقوف على الحياد بين الضحية والجلاد"، لكن ينبغي التذكير بأنّ ضحيّة اليوم هي ذاتها جلاد الأمس، مثلما أنّ جلاد اليوم هو ذاته ضحيّة الأمس، كما ينبغي التأكيد على حقيقة أنّ الحياد يعني اصطلاحاً عدم اتخاذ أي موقف، كما أنّه يشير ضمنيّاً إلى أنّ الموقف من أحداث مصر لا يقبل القسمة على أكثر من اثنين، وهنا إنمّا تكمن مغالطة مقصودة من طرفي النزاع تهدف إلى كسب أكبر عدد ممكن من المؤيدين، فالذي يرفع شعار "لا للإخوان، لا للعسكر" لا يقف على الحياد، بل يعلن موقفاً ثالثاً أكثر تحضراً، وأرقى مقاماً، وأشدّ نفعاً لمصرَ وأهلها.
أجل، بئس الثقافة التي نعيشها هذه الأيام، والتي لم تعد تعني مسؤولية الوقوف مع الضعيف ضد القويّ، بل أضحت مجرّد ترجيح كفة القريب على البعيد، فالموقف من هذا وذاك لم يعد مرتبطاً بحقيقة الصراع بقدر ارتباطه بهوية طرفيْه، فإن من تهواه النفس يبقى صائباً ولو أخطأ، ومن تبغضه النفس يبقى خاطئاً ولو أصاب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق