لكلّ نعمة نقمة، فأمّا النعمة فمصدرها المصادفة الجغرافية التي وضعت في أيدينا ذهباً أسوَدَ، وأمّا النقمة فمنبعها الجهل الذي لا يزداد إلا تماديا، وليس أشدّ خطراً على وطن من أن يجتمع فيه الجهل والمال، ففي اجتماع هذين بداية السقوط إلى حيث الهاوية، إلى حيث تُدنّس كرامة الإنسان، وتُشوّه قيمة العمل.
أتخم النفطُ جيوبنا بالمال، لكنه لم يزدنا علماً، وصدق القدّيس "أوغريس البنطي" حين قال: "الفقر مع العلم خير من الغنى مع الجهل"، كما صدق الإمام عليّ بن أبي طالب حين قال: "لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل"! إنّ المال في يد الجاهل وسيلة لتحقيق رغباته ونزواته، ولنا أن نتخيّل أيّ نوع من الرغبات تأسر قلب الجاهل، وأيّ صنف من النزوات تملك عليه نفسه وتحدّد مسار حياته، لكن الأخطر من ذلك كلّه هو هذا التدنيس الذي يلحق بكرامة الإنسان من جرّاء عادة الاستهلاك المفرط، فبالنسبة إلى أولئك الذين خفّت عقولهم وثقلت جيوبهم، قيمة الإنسان فيما يملك من أشياء، وفيما يحقق من رغبات!
على الجانب المادي، كاد النفط أن ينقلنا إلى مصاف الدول المتقدمة، لكن على الجانب الأخلاقي، لم نتمكن من تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية، فالثراء الفاحش عند القلّة فينا يدلّ على أنّ الفقر يتربّص بالكثرة منّا، كما حرمنا النفط أيضاً من القدرة على تهذيب الجانب الروحي لدى الإنسان الكويتي، فبالرغم من مظاهر التديّن التي تملأ المكان والزمان، مازال الكذب والنفاق سائدين، والجشع والطمع مستمرين، ولا تزال علاقتنا بخدم المنازل تفتقر بشكل عام إلى الحد الأدنى من الإنسانية: نقف والخدم نصلي جنبا إلى جنب، لكن ما إن تنقضي الصلاة حتى نعود من جديد إلى ثنائية الأسياد والعبيد.
قبل النفط، كانت هناك فرص عمل حقيقية، ثم جاء النفط فأصبحت الوظيفة الحكومية مجرّد معيار يتم من خلاله معرفة حصّة كل مواطن من الثروة النفطية، وهذه نتيجة طبيعية لسياسة سلطة اتخذت من المال وسيلة لبقائها، بدلاً من اتخاذ العلم وسيلة لبقاء الدولة، ثم يأتي من يتذاكى ويقول مراراً وتكراراً إنّ المواطن الكويتي لا يعمل وغير منتج، وكأنّ المطلوب أنّ يخلق المواطن بنفسه عملاً من لا شيء، وأن ينافس النفط في قيمة الإنتاج!
أخيراً، نحن شعبٌ "مستطيعٌ بغيره" كما كان رهين المحبسين يصف نفسه، وكما قلّده في ذلك عميد الأدب العربي، ومع ذلك لم يخرج من بيننا من هو بمنزلة أبي العلاء ولا بقدر طه حسين، ذلك أنّ البيئة التي يمتزج فيها المال بالجهل لا يسودها إلاّ أفراد على شاكلة "مسيو جوردان"، ذلك البرجوازي الصّلف في مسرحية موليير الشهيرة، كما أنّ الأرض التي يتعانق فيها الثراء والغباء تجود بقدر سخيّ من التفاهة والصفاقة، وتنعم بقدر لا بأس به من الهُراء والمِراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق