ما إنْ يجيء أحدنا إلى الحياة حتى يدخل في فترة حضانة تدوم سنوات طويلة، يخضع خلالها إلى عملية روتينية يسمونها "تربية"، ويستقي منها عددا هائلا من المعلومات عن العالم من حوله، معلومات تلقاها من الأسرة والمدرسة والمسجد والمجتمع بمجمله، وكلّما تفانى الطفل في حفظ تلك المعلومات عن ظهر قلب، دنا خطوة إلى الأمام في اتجاه تلك المرحلة التي يسمونها "البلوغ"، وحينئذ- حينئذ فقط- يصبح واحداً منّا، يلبس كما نلبس، و يشرب كما نشرب، ويأكل كما نأكل، والأسوأ من ذلك كلّه، يفكر كما نفكر.
كيف من الممكن أن يشعر الواحد منّا أنّه مسؤول عن تصرفاته إذا لم يُمنح الفرصة في أن يكون حرّا في أفعاله؟ هذا السؤال يفترض ضمنا وجود علاقة بين الحرية والمسؤولية، لكن ما طبيعة هذه العلاقة؟ لا يبدو لي أنها علاقة نابعة من ضرورة منطقية، بل هي على الأرجح تختلف باختلاف الثقافة السائدة في كلّ مجتمع، ولتوضيح هذه النقطة، دعنا نلقِ نظرة على مفهوم المسؤولية أولاً قبل النظر إلى علاقته بمفهوم الحرية.
مفهوم المسؤولية في ثقافتنا العربية يختلف اختلافا جوهريا عن مفهوم المسؤولية في الثقافة الغربية، فكلمة "مسؤولية" تعني بالإنكليزية responsibility، وبالفرنسية responsabilité، وبالإسبانية responsabilidad، وهذه كلّها كلمات مشتقة من الفعل اللاتيني "respondere"، أي "أجاب"، بينما المصطلح العربي مشتق من الفعل "سأل". هذا اختلاف يستحق أن نتوقف عنده قليلا، إذ إنّ من الواضح أنّ مصطلح "المسؤولية" في الثقافة الغربية يقتصر في أصله اللغوي على فعل ذاتي نابع من داخل الفرد، بينما المصطلح العربي يشير إلى فعل لا ذاتي نابع من خارج الفرد. بمعنى آخر، المسؤولية في الثقافة الغربية لها دلالة مرتبطة بقدرة الفرد على الاستجابة، لكن دلالة المسؤولية لدينا تشير إلى إخضاع الفرد إلى المساءلة (أو "accountability" في اللغة الإنكليزية). على ضوء ما تقدّم، يمكن القول إنّ المسؤولية في الثقافة الغربية مرتبطة بالحرية، بحيث يكون الفرد مسؤولاً بقدر ما هو حرّ في أن يستجيب لأي مؤثر من حوله، بينما المسؤولية في ثقافتنا العربية مرتبطة بالعبودية، بحيث يكون الفرد مسؤولاً بقدر ما هو خانع للأوامر التي تُملى عليه، ولعلّ هذا بالضبط ما يشير إليه تعبير "التحلّي بروح المسؤولية"، أي التفاني في أداء الواجب، ومن هنا فإنّ المسؤولية هي ثمرة العبودية لدينا، بينما هي ضريبة الحرّية عند سوانا.
أخيرا، تبقى الإشارة إلى حقيقة أنّ مفهوم المساواة في تراثنا الإسلامي لا يرتبط بالحرية بقدر ارتباطه بالعبودية، ذلك أنّ المساواة بين الأفراد في الإسلام ليست مساواة في مقدار الحرية بينهم، بل هي مساواة في مقدار العبودية تجاه ربّهم، كما أنها ليست مساواة في الحقوق، بل هي مساواة في الواجبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق