تمتاز الخطب الدينية بمؤثرات بلاغية تهدف إلى محاولة تسويق الأيديولوجيا بصورة فنية، وهي محاولة تنطوي على خلط متعمد بين الخطاب الفني والخطاب الأيديولوجي، فإذا كان تذوق الخطاب الفني يستوجب الاهتمام بشكل الخطاب ومضمونه، فإن ما يهمنا في الخطاب الأيديولوجي هو المضمون فقط، فما يحقّ للفنان على خشبة المسرح لا يحقّ للخطيب على المنبر، لكنّ بعض الخطباء– مع الأسف– يأبون إلاّ أن يحاكوا التراجيديا في لجوئهم عادة إلى البكاء الفردي لتحفيز البكاء الجماعي.
كم منّا قادرٌ على إهمال الجانب البلاغي في الخطاب الأيديولوجي والتركيز بدلاً من ذلك على فحوى الخطاب نفسه؟ وكم منّا يدرك أنّ آلية الإقناع مرتبطة فقط بنشاط خلايا الدماغ، ولا علاقة لها إطلاقا بمتانة الأوتار الصوتية؟ إنّ الصراخ والبكاء لا يقنعان، فالأول يصمّ الآذان، والثاني يثير الشفقة، وكلاهما فيه ابتذال ويدلّ على فشل ذريع في العثور على حجة منطقية.
يقف الخطيب على المنبر ليتحدّث في كلّ شيء وعن أي شيء، فالدين لا يعني بالنسبة إليه حالة روحية، بل فكرة شمولية؛ لذا لا يجد الخطيب حرجا في الاعتراض على مهرجان ترفيهي، أو الحديث عن الربيع العربي، أو حتى التطفّل على فيزياء الثقوب السوداء! إنّ استمراء الخوض في كلّ موضوع يفضح ضحالة المعرفة بأي موضوع.
يجد الغالبية منّا في خطبة الجمعة فرصة لتهذيب الروح وتطهير القلب، لكن كم منّا يجد فيها فرصة لإعادة التفكير وطرح الأسئلة؟ لماذا، مثلا، تتشابه خطب الجمعة من حيث الشكل والأسلوب؟ ولماذا يصعب التنبؤ بموضوع خطبة الجمعة من خلال سماع المقدمة، فالمقدمة هي ذاتها في كل خطبة جمعة؟ ولماذا ينفر أغلب الخطباء من مخاطبة عقول المصلين؟ ولماذا يتم انتهاك أبسط قوانين الفيزياء مع نهاية كلّ خطبة جمعة؟ ولماذا الإصرار على أن بعض المسائل الدينية لا يمكن الدفاع عنها بطريقة منطقية، وكأن تاريخنا الإسلامي لم يشهد شيخا في قامة الشيخ "النظّام" المعتزلي، أو فيلسوفا كـ"ابن رشد"؟
لكن طرح الأسئلة يحتاج إلى تفكير، فهل نفكّر فيما نسمع أم أننا منشغلون بالمؤثرات البلاغية التي تمتاز بها الخطب الدينية؟ قبل سنوات مضت، وبعد انقضاء صلاة الجمعة، تحدثت مع أحدهم عن شعوب الأزتيك في المكسيك، وكان الحديث يدور تحديدا حول إيمان تلك الشعوب بفكرة أنّ استمرار سطوع أشعة الشمس مشروط بأكل لحوم البشر، ولهذا السبب احتل الأزتيك المرتبة الأولى من بين كل الشعوب البدائية في تقديم أعداد هائلة من البشر على شكل قرابين للآلهة، ومهما أنس فلن أنسى استياء صاحبي من فكرة أن تكون الأولوية للمعتقد الديني على حساب الرابط الإنساني، لكن لم يخطر في باله قط أنّ القصة التي سمعها للتو من الخطيب حول النبي إبراهيم مع ولده إسماعيل تنطوي على الفكرة ذاتها، بل تذهب إلى أبعد منها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق