هناك شكلان- على الأقل- للعلاقة المتبادلة بين السياسة والدين: إمّا أن تكون السياسة في خدمة الدين، وإمّا أن يكون الدين في خدمة السياسة. الشكل الأول لهذه العلاقة يستهوي أولئك الذين يشرئبون إلى العالم الآخر، والشكل الثاني يُغري أولئك المنغمسين في العالم السفلي. الفريق الأول يرى الدين غاية، والفريق الثاني يراه وسيلة، لكن ما يجمع بين الفريقين هو الفكرة الداعية إلى ضرورة أن يرتبط الدين بشؤون الحياة كافة، ومن ضمنها تلك المتعلقة بعالم السياسة، ولولا هذه الفكرة الشمولية لما حظيت التيارات الدينية بشعبية عارمة، ولما حظيت البنوك الإسلامية بشعبية مماثلة، ولما حققت كتب الإعجاز العلمي رواجاً بين الناس، بل لما دخلت الفتاوى الدينية إلى دهاليز السياسة.
في التاريخ المصري القديم، كان الفرعون، قبل اتخاذ أي قرار سياسي، يستشير الإله "آمون"، ثم يأتيه الرد على شكل إشارات مبهمة لا يستطيع تفسير معناها إلا الكهنة، فهؤلاء وحدهم من يحق لهم تفسير تلك الإشارت الإلهية، وبذلك انتقلت السلطة السياسية من قصر الفرعون إلى معابد الكهنة، وفي بعض الأحيان، يصل الأمر إلى حد القيام بتقديم رشوة إلى الآلهة للحصول على الجواب المطلوب، وهذا ما يخبرنا به المؤرخ الإغريقي "هيرودوتس" عن معبد "دلفي"، حيث يجيب الإله "أبوللو" بواسطة الوحي عن كل سؤال يُطرح عليه، ولم يكن الوحي سوى امرأة تختبئ وراء ستار، حيث تجيب بما يرغب السائل في سماعه، ثم تأخذ أجر ذلك من ماله، وهنا إنما تكمن الجذور التاريخية لشيوخ السلاطين في عصرنا الحاضر، مع فارق عنصر الحياء بالطبع، فخادمة "أبوللو" مجبرة على الاختباء كي لا ينكشف المستور، بينما لا يجد شيوخ السلاطين حرجاً في الظهور على الفضائيات بكل سُفور!
بعد الثاني من أغسطس من عام 1990، وبعد أن ناشدت الكويت العالم أجمع كي يهبّ لنجدتها، سمعنا فتاوى دينية تجيز الاستعانة بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت، وسمعنا كذلك فتاوى دينية تحرّم طلب العون من "الغرب الكافر"، وكان من الواضح آنذاك أن هذا التضاد في الرأي الديني لم يكن اختلافاً في تفسير الدين، بل كان اختلافاً في توظيف الدين، فالفتاوى المؤيدة للاستعانة بالقوات الأجنبية صدرت من دول مثل السعودية وبقية دول الخليج، بينما جاءت الفتاوى المحرّمة لمثل تلك الاستعانة من دول مثل العراق والأردن وفلسطين والجزائر وتونس، الأمر الذي يعكس تطابقاً بين مضمون الفتوى الدينية من جهة، والتوجه السياسي للبلد الذي خرجت منه الفتوى من جهة أخرى.
اليوم، وبعد ثورات الربيع العربي، ها هي الفتاوى الدينية تعود من جديد لكن بوتيرة متسارعة، وها هم شيوخ السلاطين يظهرون من جديد لكن بصورة أشدّ فجاجة، وفي كلّ فريق سلاطين وأتباعهم من شيوخ الدين، فتارة نسمع أنّ جبريل قد صلّى مع المعتصمين في ميدان "رابعة"، وتارة نسمع أنّ الله قد سخّر لمصرَ "السيسي" يجدّد لها دينها، والغريب أنّ مَن يصدّق الأولى يسخر من الثانية، ومَن يصدّق الثانية يسخر من الأولى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق