تتزامن أحيانا بعض الظواهر في المجتمع الذي نعيش فيه، وقد تبدو على السطح متباينة ولا رابط فيما بينها، لكن لو دققنا قليلا فإننا قد نعثر على المحرك الأساسي لكل تلك الظواهر، فمثلاً، قد نقرأ في جريدة ما خبراً عن حادث مروري مروع نتيجة السرعة الجنونية، ثم نقرأ خبراً آخر عن ذهاب مجموعة من الشباب إلى بلد عربيّ تلبية لدعوات الجهاد، ثم نقرأ خبراً ثالثاً عن عراك في مكان عام بين مراهقين بدأ بمشكلة بسيطة وانتهى بجريمة قتل! للوهلة الأولى، قد تبدو هذه المجموعة من الأخبار غير مرتبطة ببعضها بعضاً، لكن بعد طول نظر سنجد أنّ العامل المشترك بينها جميعا يشير إلى الفشل في إدراك قيمة الحياة.
عندما تدفع الأيديولوجية المسيطرة على عقول الناس باتجاه الزهد في الحياة وحب الموت لأي سبب كان، فإن فكرة حب الحياة وإدراك قيمتها تصبح فكرة مستعصية على الفهم. باستطاعتي أن أفهم المصوغات التي تدفع إلى كبت غريزة الجنس في مجتمع محافظ، لكني ما زلت لا أستوعب كيف يحاربون غريزة حب البقاء! لو تصفّحنا مناهج التربية الإسلامية أو استمعنا إلى بعض الخطب الدينية، فلسوف نجد صورة مظلمة عن مفهوم "الحياة الدنيا"، إذ يبدو أن هنالك من هو مشغول بإعداد أبنائنا لمرحلة ما بعد الموت، أما الحياة فليست سوى دار فانية، وعندما تكون الحياة رخيصة إلى هذه الدرجة، كيف لا يسرع المجنون، ويجاهد المخدوع، ويقتل المعتوه؟
من لا يدرك قيمة حياته فلن يكون بمقدوره إدراك قيمة حياة الآخرين، ولست أجد ثقافة تستهين بقيمة الإنسان كتلك التي تمتد من المحيط إلى الخليج، فمشاهد قطع الرؤوس، مثلا، تملأ الفضائيات من دون سابق إنذار، ومن دون أن تثير أدنى تقزز عند الكثير منّا، فنحن قد ألفنا ثقافة العنف منذ نعومة أظفارنا، فالحرب كانت لعبتنا المفضلة عندما كنّا صغارا، والمسدس كان الدمية المحببة إلى قلوبنا، و"دخان البنادق" كان أقرب المسلسلات إلى نفوسنا، ثم يأتي فوق كل ذلك دور المدرسة كي تكرّس ثقافة العنف من دون أدنى إحساس بالمسؤولية، فأغلب قصص العنف التي قرأناها في تراثنا العربي تنتهي عادة بضرب الأعناق، ولا يزال كاتب هذه السطور يذكر على وجه التحديد تلك القصة الشهيرة التي سمعها مع أقرانه من مدرس اللغة العربية، تلك التي تحكي ما دار بين عمرو بن هند وعمرو بن كلثوم، وكيف بدا أستاذنا الفاضل مسروراً من انجذابنا لتلك القصة، الأمر الذي دفعه إلى قراءة المعلّقة على مسامعنا بحماس لا مثيل له، حتى ختمها بهذا البيت: "إذا بلغ الرضيع لنا فطاما، تخرّ له الجبابر ساجدينا". لقد بلغ الحماس بنا نحن- معشر أطفال الأمس- درجة ظن فيها كل واحد منا أنه المقصود بذلك الرضيع الذي تخرّ له الجبابر ساجدينا! ما ضرّ أستاذنا الفاضل لو أنه سرد علينا القصة بروح عصرية؟ ما ضره -مثلاً- لو أنه علّق على تلك القصة الدموية قائلا: "لا شك أن الشاعر مخطئ في قتل خصمه، فلو أنه طالب بالاعتذار أو المعاملة بالمثل، لكان في ذلك حقن لنفس بشرية"؟
يردد كثير من المختصين أننا في حاجة إلى تعليم في الوطن العربي، ولكني أعتقد، وبصدق، أننا أشدّ حاجة إلى عيادات نفسية. نريد طبيبا نفسيا يذكّرنا بأن طفولتنا فقدت براءتها مبكراً، وأن لعبة الحرب لا تكرس سوى العدوانية، وأن دمية المسدس رمز لاغتصاب الحياة، وأن دخان البنادق يعكر سَكينة الطيور! نريد طبيبا نفسيا يذكّرنا بأن القصص التي تنتهي بضرب العنق لا تنمّ إلا عن وحشية واستهتار بحقوق الإنسان، وأن الدفاع عن الوطن يعني في أحيان كثيرة القتل من أجل الوطن! نريد طبيباً نفسياً يقول لنا إن العنف شر مطلق، وإن إزهاق روح المسلم لا يختلف عن إزهاق روح المسيحي أو اليهودي أو البوذي أو الملحد أو أي روح بشرية.
حياة الإنسان ثمرة ملايين السنين من تاريخ الطبيعة، وإزهاقها يدل على عدم احترام لهذا التاريخ الطويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق