مدنيّة الدولة تشير إلى شكل من أشكال الحُكم يقوم على تنظيم التعايش بين أفراد المجتمع الواحد بشكل سلميّ، وعلى أساس عقلانيّ، وبطريقة عادلة، ومن هنا فإنّ السلميّة والعقلانيّة والعدالة هي أبرز سمات الدولة المدنية، فالسلميّة هي التي تميّز الدولة المدنيّة عن دولة العسكر، والعقلانية هي التي تميّز الدولة المدنية عن الدولة الدينية، والعدالة هي التي تميّز الدولة المدنية عن الدولة الفئوية.
نبذ العنف هو أحد مظاهر المدنيّة عند الفرد والدولة على حدّ سواء، فالفرد مدنيّ بالقدر الذي يستطيع فيه حلّ خلافاته مع الآخرين بطريقة سلميّة، والدولة مدنيّة بالقدر الذي تستطيع فيه حلّ خلافاتها مع الدول الأخرى بطريقة سلميّة، وأمّا على المستوى الداخلي، فمدنيّة الدولة تتجلّى بمدى قدرتها على فرض القانون بطريقة هي إلى السّلم أقرب منها إلى العنف، وهنا تحديداً تقف الدولة المدنيّة على النقيض من دولة العسكر، فهذه الأخيرة تسود فيها لغة القوة والبطش والاستبداد، وسيادة السّلطان فيها تتحقّق قسراً لا طواعية.
العقلانية بمفهومها الواسع شرط ضروريّ لبناء الدولة المدنية، فإذا كان ضمان التعايش السلمي بين الأفراد هو الغرض الجوهري من قيام الدولة، فإنّ أنجع أداة لتحقيق هذا الهدف هو العقل الإنساني وما ييتدع من قوانين وضعيّة قابلة للنقد والتعديل، وقابليّة القوانين الوضعية للنقد والتعديل هي التي تجعل من العلمانية إحدى ركائز الدولة المدنيّة، ذلك أنّ انتقال الدين من المحيط العام إلى المحيط الخاص يقطع الطريق أمام التيارات الدينية في استخدام قوانين إلهية لا يملك أحدٌ الحقّ في تعديلها أو تنقيحها، كما أنّ المنهج العقلاني– كما ذكرنا في مقال سابق– يمتاز بالتواضع العقلي الذي يقرّ بأننا لا نعرف مصير آمالنا في المستقبل، لكننا على الأقل نعرف مصير إخفاقاتنا في الماضي، ومن خلال إخفاقات الماضي نتعلّم الوصول شيئا فشيئا إلى خلق مجتمع أفضل، وهنا إنّما يبرز اختلاف جوهريّ بين الدولة المدنية والدولة الدينية، فهذه الأخيرة تتصف بالحكم الشمولي الذي يتعدى الغرض من قيام الدولة إلى الغرض من وجود الإنسان على كوكب الأرض!
العدالة سمة أخرى من سمات المدنيّة، والدولة المدنيّة هي تلك القادرة على التخفيف من حدة التناقضات الطبقية بطريقة عادلة، فإذا كان التتاقض الطبقي نتيجة موضوعية لتطوّر نمط الإنتاج من مرحلة الاكتفاء الذاتي إلى مرحلة فائض القيمة، وإذا كان احتكار فائض قيمة الإنتاج يعني احتكاراً للسلطة السياسية، فإنّ مدنيّة الدولة تقاس بمدى قدرتها على منع استئثار فئة اجتماعية معيّنة بالسلطة والثروة، وهذا بالضبط ما يجعل من الديمقراطية ركيزة أخرى من ركائز الدولة المدنيّة، فالسلطة المستمدّة من الشعب بكلّ فئاته هي السلطة القادرة على ضمان التعايش السلمي والعادل بين أفراد الشعب الواحد.
أخيراً، بقيَ استدراك يُشير إلى ثلاث نقاط، الأولى هي أنّ مدنيّة الدولة تكشف في واقع الأمر عن قصور في مدنيّة بعض مواطنيها، ذلك أنّ الإنسان المدنيّ لا يحتاج إلى سلطة عليا لضمان تعايشه السلمي والعادل مع الآخرين، وأمّا النقطة الثانية فتشير إلى حقيقة أنّ السلطة العليا للدولة لا تكون ديمقراطية إلاّ عندما تكون مؤسسات المجتمع المدني ديمقراطية، أيّ أنّ النظام الديمقراطي الحقيقي هو ذلك النظام الذي يجسّد فيه المجتمع المدني فئاته بأطيافها كافّة، وأمّا النقطة الثالثة والأخيرة فتتعلّق بمفهوم العدالة، فهذا المفهوم ليس مرادفاً لمفهوم "المساواة"، ذلك أنّ المساواة في الظلم ليست عدلاً، مثلما أنّ المساواة في العبودية ليست حريّة، ومن هنا فإنّ الدولة المدنية لا تكتفي بضمان المساواة بين مواطنيها في الحقوق والواجبات، بل هي تحرص أيضا على أن يكون معيار الحقوق والواجبات مرتبطا فقط بالغرض من وجود الدولة، فحقوق الفرد حقوق لأنّ اكتسابها لا يتعارض مع مبدأ التعايش السلمي والعادل مع الآخرين، وواجبات الفرد واجبات لأنّ الإخلال بها يتعارض مع المبدأ نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق