حرية التعبير، على العكس من أغلب حقوق الإنسان الأخرى، ليست مرتبطة بالفرد فحسب، بل هي أيضاً أداة في غاية الأهمية للحفاظ على الديمقراطية، ذلك أنّ التبادل الحرّ للأفكار والمعلومات يضمن أمرين: إتاحة الفرصة أمام الفرد كي يتخذ بشأن السلطة قراراً صائباً، وإتاحة الفرصة أمام الشعب كي يعاقب السلطة عند اتخاذها قراراً خاطئاً. بمعنى آخر أكثر إيجازاً، الشفافية شرط ضروري للوصول إلى حُكم رشيد ومحاسبة عادلة، وكلاهما عماد النظام الديمقراطي.
الديمقراطية تجسيد لإرادة الشعب بكلّ أفراده، لكن ما قيمة الإرادة القابعة تحت ظلمة الجهل؟ إنّ من شأن حريّة التعبير المساهمة في إزاحة ظلمة الجهل من خلال توفير المعلومات الكافية التي تتيح للأفراد الوصول إلى آراء سديدة، وعندما يتعلّق الأمر بشأن عام، فإن توافر المعلومات الكافية حوله واجبٌ يقع على عاتق الحكومات الديمقراطية في المقام الأول، وعلى عاتق وسائل الإعلام في المقام الثاني، فالشفافية في نقل المعلومة هي التي تجعل الحكومة الديمقراطية مسؤولة، والحريّة في نقل المعلومة هي التي تجعل الوسيلة الإعلامية مقروءة.
إذا كان نقل المعلومة واجباً على وسائل الإعلام، فإنّ استقبال هذه المعلومة حقّ لكلّ فرد، ذلك أنّ هناك علاقة وطيدة بين توافر المعلومات الكافية حول قضية عامّة من جهة، وتشكيل رأي عام حول القضية ذاتها من جهة أخرى، وكلّما كان توافر المعلومات كافياً، زادت فرصة خلق رأي عام متوازن وموضوعيّ، ولا يُستثنى من ذلك تلك القضايا المعروضة على القضاء، فالمهمة الأساس للقضاء هي حلّ النزاعات، وحلّ أيّ نزاع بطريقة موضوعية وعادلة يتطلّب توافر المعلومة، لا حجبها، وعندما يتعلّق الأمر بقضية تمسّ الشأن العام، فإنّ حقّ المواطن لا يقلّ عن حقّ القاضي في معرفة كلّ تفاصيل القضية.
في سبعينيات القرن الماضي، توّرطت إحدى شركات الأدوية في فضيحة هزّت المجتمع البريطاني، فقد تسبّب عقار جديد من إنتاجها في تشويه عدد كبير من المواليد الجدد، وعندما نشرت صحيفة "الصنداي تايمز" الخبر، سارعت الحكومة البريطانية آنذاك إلى تهديد الصحيفة بالإغلاق إنْ هي عمدت إلى الاستمرار في نشر تفاصيل القضية، وقد برّرت الحكومة هذا التهديد بقولها إنّ القضية معروضة أمام القضاء، لكن بعد سنوات من المعارك القضائية، انتصرت المحكمة الأوروبية للصحيفة ضد الحكومة البريطانية، وكان مما جاء في الحُكم ما يلي: "القضاء جزء من المجتمع ولا يؤدي مهمته في الفراغ، وإذا كان من واجب القضاء أن يقضي بين المتنازعين حول قضية ما، فإنّ هذا لا يعني عدم حريةّ المجتمع في الخوض في أدق تفاصيل القضية، بل إنّ من واجب وسائل الإعلام أن تمكّن الناس من ذلك، ومن حقّ الناس أن يطّلعوا على كلّ التفاصيل، فحريّة الصحافة هي إحدى أهم ركائز المجتمع الديمقراطي".
أخيراً، حريّة التعبير، مثل كلّ الحريّات، وجودها لا يحتاج إلى تبرير، في حين أنّ قمعها هو الذي في حاجة إلى تبرير. إنّها لا تعني فقط حرية تعبير لأولئك الذين يحملون آراءً تُعجبنا، بل هي أيضا حريّة تعبير لأولئك الذين لا تُعجبنا آراؤهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق