مع كل موجة عنف يرفع راكبوها شعار الدين، يبرز السؤال المتعلق بمدى ارتباط الدين بالعنف، وأمّا الإجابة عن هذا السؤال فعادة ما يتصدّى لها فريقان من الاعتذاريين، وكلا الفريقين يلجأ إلى الدين: أحدهما لتبرير العنف، والآخر لإدانته، وما يعنينا في هذا المقال هو أقرب هذين الفريقين إلى مدنيّة التعايش، وأبعدهما عن همجيّة "الدواعش".
هناك ممّن لا يملّ من ترديد مقولة إن الدين بريء من العنف، وهي مقولة تتضمن منطقيا فكرة محاكمة الدين، ذلك أنّ الدفاع عن أي قضية يقتضي بالضرورة وجود محاكمة (أي وجود عملية تقييم موضوعية لآراء متنافرة بهدف الوصول إلى الحقيقة)، وأوّل نقطة تسترعي الانتباه حول نوعية هذه المحاكمة هو أن الحُكم فيها يأتي قبل المداولة.
فالدين بريء قبل أي شيء ورغما عن كل شيء، وإذا كانت هذه هي طبيعة الحكم، فلا نملك عندئذ سوى أن نتساءل عن قيمة تلك القائمة الطويلة من الحجج التي يستميت أصحابها كي يبرهنوا على أن الدين بريء من العنف أو الإرهاب. هذا القصور في النزاهة الفكرية سمة من سمات الفكر الاعتذاري، فهو فكر لا يحاول أبدا البحث عن الحقيقة، بل تقتصر مهمته فقط على الدفاع عمّا يراه حقيقة.
هناك أيضا نقطة تتعلق بنوعية الحجج التي تدعم الحُكم بأن "الدين بريء"، فهي حجج تعتمد مبدأ الانتقائية لنصوص دينية تدعو إلى السلم، متجاهلة في الوقت نفسه أنّ من اختار السيف وسيلة للحوار ينتقي أيضا نصوصا دينية، ممّا يعني أنّ المصدر المشترك الذي يستند إليه الطرفان يؤدي إلى قراءات متناقضة، كما أنّ حجج كلا الطرفين لا تتصف بالموضوعية، فمصدر هذه الحجج هو الدين، وهدف هذه الحجج هو الدفاع عن الدين!
لنفترض وجود دين من الأديان لا يحتوي كتابه المقدس على أي جملة تدعو إلى العنف، كما لا تقبل تعاليمه كلّها أي تفسير يدعو إلى العنف، فهل من المنطقي في هذه الحالة أن يلجأ أتباع هذا الدين المسالم إلى العنف باسم الدين؟ وهل من المعقول أن تبرز الحاجة إلى التأكيد على براءة هذا الدين المسالم من العنف؟ أليس من المستحيل منطقيا أن تنشأ حركة شبيهة بـ"داعش" بين أنصار الديانة "اليانية" في الهند، وهي ديانة قائمة على نبذ العنف، ليس ضد الإنسان فحسب، بل ضد كل الكائنات الحية؟!
قد يفسّر مَن في قلوبهم مرض دينهم بصورة مشوهة، لكن المشكلة الجوهرية لا تكمن في التفسير المشوّه، بل في إمكانية وجوده، وسيبقى حلّ هذه المشكلة الجوهرية بعيد المنال ما بقيت أصوات الاعتذاريين مجلجلة ومؤثرة.