الكلام حالة خاصة من حالات الظاهرة الفيزيائية التي تسمى "الصوت"، ذلك أنّ كلّ حرف عبارة عن صوت، في حين أنّ العكس غير صحيح، ومن هنا نستنتج أنّ مفهوم الصمت بوصفه غياب الصوت أشمل من مفهوم الصمت بوصفه غياب الكلام، وما يعنينا في هذا المقال هو صمت الإنسان، لا صمت المكان.
تعدّد المعنى لا يقتصر على الكلام، فالصمت أيضا يشير إلى معان متعددة، قد تلجأ الفتاة الشرقية إلى الصمت عند قبولها بعرض الزواج، ولكن الصمت يعني الرفض عند فتيات قبيلة "الإيبو" في نيجيريا، وبالمثل، فقد تشير لحظات الصمت قبل الإجابة عن سؤال إلى الفشل في العثور على إجابة، وقد تدلّ أيضا على التعامل بجديّة مع السؤال المطروح، كما أنّ الصمت حيث يجب الكلام جُبن، في حين أن الكلام حيث يجب الصمت تهوّر وحماقة، ذلك أنّ الصمت هو أضمن طريقة لتفادي زلّة اللسان!
يقول الشاعر الإيراني المعروف "أحمد شاملو": إنّ الصمت يتحدّث بألف لسان"! في إحدى قصص "دويل" الشهيرة، كان الصمت هو المُرشد الذي قاد المحقق الشهير إلى حلّ لغز القضية، فعندما لاحظ "شيرلوك هولمز" عدم نباح الكلب أثناء وقوع الجريمة، علّق قائلاً: "بين ثنايا الصمت أحيانا معلومات كثيرة"! في المقابل، كان الصمت طوق النجاة الذي أنقذ "شهرزاد" من الموت في قصص ألف ليلة وليلة، كما كان الصمت أيضا العقاب الذي فرضه "سكندس" على نفسه بعد أن أفشى سرّاً لأمه أدّى إلى انتحارها!
لمارتن لوثر كينغ عبارة شهيرة، وهي أنّ "بداية النهاية لحياتنا هي عندما نصمت عمّا ينبغي قوله"، لكن في بعض الأحيان، يكون الصمت عنوانا لمقاومة الظلم والطغيان، وهذا ما يبدو جليّاً في "جمهورية الصمت" للمفكر الفرنسي "جان بول سارتر"، ففي معرض وصفه الدقيق لمعاناة الشعب الفرنسي تحت وطأة الاحتلال الألماني، كتب "سارتر" يقول: "نحن مجبرون على الصمت، لكننا نقول (لا) بواسطة صمتنا"!
الصمت رمزٌ للتجاهل عندما يرخص الكلام، والصمت مأوى النفوس العزيزة عندما يشيع النفاق، هو درع في يد الضحية، وسلاح في وجه الجلاد، كما أنه يُخفي بين ثناياه، كما لاحظ "هولمز"، كثيراً من الكلام غير المباح!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق