الجنسية، بكل أصنافها، وثيقة تشير إلى الوجود القانوني لحاملها، وهذا الوجود لا يحددّ العلاقة بين المواطن والدولة فحسب، بل إنّ له أيضا أبعاداً كثيرة، بعضها ذو طابع اقتصادي، وبعضها الآخر ذو طابع اجتماعي، ولهذا فإنّ قرار سحب الجنسية من مواطن له تبعات خطيرة، ذلك أنّ محو الوجود القانوني للأفراد بمنزلة تعدٍّ سافر على حقوقهم الإنسانية، وأهمها حقّ العيش الكريم.
يردّد الكثيرون أن موضوع الجنسية شأن سياديّ، وهذه طريقة مهذبة للقول إنّ الوجود القانوني للفرد مرهون بمزاج الحكومة، فهي المانحة إذا انتشت، وهي المانعة إذا استطارت، وهذا الفهم القاصر لمفهوم "الجنسية" هو المسؤول عن غضب العنصريين بالأمس مما يسمى كذبا وزوراً بـ"التجنيس العشوائي"، وعن نشوتهم اليوم بإسقاط الجنسية، كما أنه المسؤول أيضا عن سخط الرجعيين بالأمس ممّا يسمى تهكما وانتقاصا بـ"تجنيس الفنّانين والمطربين"، وعن فرحتهم بالأمس أيضا بإسقاط الجنسية عن المخالفين لهم في العقيدة، ممّا يعني أننا حتى لو كنّا في بلد ديمقراطي حقيقي، لما جاء مزاج الحكومة منسجما إلى هذا الحدّ مع مزاج قطاع واسع من الشعب!
إسقاط الجنسية شكل من أشكال العقاب، ولا عقاب من دون محاكمة عادلة، هذا إذا كنّا فعلا نعيش في بلد يحق له أن يفتخر بلقب "مركز إنساني عالمي"، لكن يبدو أنّ الألقاب، مثل مزاج الحكومة، ليست سوى نتاج لضرورات اللحظة الراهنة، ولهذا السبب تحديداً لا يجد الكثيرون تناقضا بين الاحتفاء بهذا اللقب والاصطفاف وراء سياسة إسقاط الجنسية.
أكاد أسمع من يعترض قائلا إن الكثير من الدول المتقدمة دأبت في الآونة الأخيرة على وجه الخصوص إلى إسقاط الجنسية عن مواطنيها ممن انضموا إلى تنظيمات إرهابية، ولكن نصيب هذه الحجة من الرجاحة يساوي نصيب الحجة التي تجعل من قتل مئات الألوف من البشر أمراً مشروعاً لمجرد أن إحدى الدول المتقدمة قد قامت بذلك! ثم إنّ هناك فرقاً كبيراً بين الإرهابي والخصم السياسي، لكن يبدو أن حرية التعبير أضحت وجهاً من وجوه الإرهاب حسب مزاج الحكومة، وفي ظلّ مجلس "الصوت الواحد" لا ينبغي لمزاج الحكومة أن يتعكّر أبداً!
نعود لنقول ما سبق أن قلنا بالأمس: قد ينجح السيف في إرغام الآخرين على الإذعان لرأي السلطة، لكن السيف في حد ذاته لا يشكل دليلاً على صحة رأي السلطة، وصدق الأديب الإسباني ميغيل أونامونو حين قال: "ربما انتصرتم، لكنكم لن تفلحوا أبدا في إقناعنا بقوة السلاح".