ازدراء العقل فعلٌ لا يُجرّمه القانون، فالقانون- كما يقولون- لا يحمي المغفلين، في حين أنّ نقد أيّ من أركان "الثالوث المحرّم" يضمن لك- في أفضل الحالات- مكاناً خلف القضبان، بمعنى آخر أكثر تحديداً، إذا أردت أن ترى القانون مُكشّراً عن أنيابه فجرّب أن تنتقد حاكماً من الحُكّام، أو أصلاً من أصول الدين، أو حتى عادة اجتماعية عزيزة على قلوب أولئك الذين هكذا وجدوا آباءهم يفعلون، لكن في المقابل إذا أردت أن ترى القانون رافعاً كتفيه في إشارة إلى إخلاء مسؤوليته فبوسعك أن تشاهد نشرة الأخبار، أو برنامجا دينيا، أو حتى حلقة من حلقات مسلسل تاريخي.
لو كان الميدان الذي يمارس من خلاله العقل نشاطه مستقلّاً تماماً عن ميادين "الثالوث المحرّم"، لما كانت هناك مشكلة، لكن الحقيقة تشير إلى أنّ النشاط العقلي يكتسب أهمية بالغة عندما يُوظّف في نقد السلطات الثلاث، السياسية والدينية والاجتماعية، وإغفال هذه الحقيقة هو المسؤول عن ازدراء العقل وإهانته، فالعقل يُحجم عن نقد السلطة السياسية في غياب الديمقراطية، وعن نقد السلطة الدينية في غياب العلمانية، وعن نقد السلطة الاجتماعية في غياب التسامح.
عندما تسود اللاعقلانية بهذا الشكل الصارخ، وعندما لا يجد العقل له مكاناً في حياتنا، فإن النتائج- كما يخبرنا التاريخ- ستكون وخيمة، فمن رحِم اللاعقلانية خرجت أبرز أنواع الدكتاتوريات في تاريخ البشرية: دكتاتورية الفرد، ودكتاتورية النص، ودكتاتورية العُرف. إنّ أبشع إهانة في حقّ آدميّتنا هي إجبارنا على ألّا نفكّر، كما أنّ أفدح كارثة في حقّ مستقبلنا هي إرغامنا على عدم إعمال العقل في المشكلات الناتجة عن "الثالوث المحرّم".
"أنا أفكّر، إذاً أنا موجود"، هذه هي العبارة التي سمع بها الكثير منّا، لكن ما يجهله أغلبنا هو المعنى العميق لهذا "الكوجيتو" الديكارتي، فهو يجسّد النقطة الحرجة التي تفصل بين الهدم والبناء؛ هدم الأوهام وبناء معرفة حقيقية على أنقاضها، وأمّا العقل فقد كان مِعول هدم تارة، ولُبنة بناء تارة أخرى، ولولاه لما قامت حضارة علمية تجعل من الشك حقّاً أصيلاً لكلّ ذي عقل!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق