بالنسبة إلى الغرب هناك فرق كبير بين المرء وما يؤمن به، لذا فإنّ قوانينهم تجرّم السخرية من أيّ إنسان من حيث هو إنسان، لكنها لا تجرّم السخرية من أفكار أي إنسان مهما بلغت قدسيتها، في حين أن الوضع في ثقافتنا الإسلامية مختلف تماما، حيث نجد تمازجا كليّا بين الذات والمعتقد.
أيّهما أشدّ إهانة الدين الإسلامي: أن تُقطع الرّقاب وتُزهق الأرواح باسم هذا الدين على مرأى ومسمع من العالم أجمع، أم أن تنشر صحيفة رسماً كاريكاتوريا تسخر من خلاله بمقدسات هذا الدين؟ يبدو أن السنوات الماضية تكفّلت بالإجابة عن هذا السؤال، فعندما نشرت صحيفة "جيلاندس بوستن" الدنماركية رسومها الشهيرة، جاء الرد الإسلامي الغاضب من خلال مقاطعة البضائع وحرق السفارات وسحب السفراء، في حين أنّ هذا الغضب استحال برداً وسلاماً أمام ثقافة قطع الرؤوس التي بدأت مع غزو العراق واستمرت إلى يومنا هذا. هل من حقّ أمّة من الأمم أن تفرض قيمها ومعتقداتها على أمة أخرى؟ هنا أيضا تجيب السنوات القلائل الماضية عن هذا السؤال، فعندما حظرت فرنسا ارتداء النقاب في الأماكن العامة، جاء الرد الإسلامي محتجا على فرض قيم علمانية على أتباع دين سماوي، وفي هذه النقطة تحديدا كان الرد الإسلامي يتسم بالمنطق وقوة الحجة، لكن أحداث باريس الأخيرة كشفت عن حقيقة أنّ فرض القيم الإسلامية على غير المسلمين أمر مشروع.
وماذا عن تناقضات الغرب؟ تناقضات الغرب كثيرة، لكن ليس من بينها ما تتضمنه تلك الحجة التي تتكرر كثيرا هذه الأيام، ومفادها أنّ قوانين الغرب تجرّم السخرية من اليهود ولا تجرّم السخرية من الإسلام، وهذا أمر منافٍ للواقع، فالسخرية الهادفة من كل المعتقدات، دينية كانت أم غير دينية، أمر مباح في الغرب، وأما فيما يتعلق باليهود فالذي تجّرمه القوانين هناك مرتبط بمسألة إنكار المحرقة الشهيرة، ومع ذلك فحتى هذا التجريم لاقى ويلاقي معارضة كبيرة من أشهر المفكرين الغربيين، ومن ضمنهم مفكرون يهود!
لماذا تعتدي حرية التعبير لديهم على معتقداتنا؟ هذا سؤال تكرّر كثيرا أيضا في الأيام الماضية، لكن تنبغي ملاحظة أنّ حرية التعبير لديهم لا تعتدي على معتقداتنا فقط، بل إنها تتعدّى ذلك إلى معتقداتهم هم أنفسهم أيضا، فبالنسبة إليهم هناك فرق كبير بين المرء وما يؤمن به، لذا فإنّ قوانينهم تجرّم السخرية من أيّ إنسان من حيث هو إنسان، لكنها لا تجرّم السخرية من أفكار أي إنسان مهما بلغت قدسيتها، في حين أن الوضع في ثقافتنا الإسلامية مختلف تماما، حيث نجد تمازجا كليّا بين الذات والمعتقد، فمن يعتد على المعتقد فكأنما اعتدى على الذات، ولعل هذا التنافر بين النظرتين الغربية والشرقية يعكس تناقضا في القيم الحضارية لكلّ منهما.
إنّ حرية التعبير ليست ترفاً غربيا، بل قيمة إنسانية مكتسبة جاءت بعد قرون من التضحيات، كما أن فنّ الكاريكاتير لا يهدف إلى السخرية لمجرّد السخرية، بل يتّخذ من السخرية وسيلة لكشف التناقضات وتسليط الضوء على المشكلات الناجمة عنها، فمثلاً عندما نشرت صحيفة "شارلي إيبدو" ذلك الكاركاتير الشهير، كان من الواضح لكلّ من شاهده بموضوعية أنّ الفكرة الكامنة فيه تشير إلى إدانة لوحشية "داعش"، ومن منّا لا يدين "داعش" ويحتفظ بإنسانيته في الوقت نفسه؟!
هل من حقّ الغاضبين أن يغضبوا؟ بكل تأكيد، لكن ليس من حقهم أن يُخرسوا مَن أغضبهم، وقد آن الأوان أن نشبّ عن الطوق ونتعلّم الصبر على سماع ما قد لا يُعجبنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق