لا يبدو أنّ الأصوليين والحداثيين متفقون حول مفهوم "تجديد الدين"، فبالنسبة إلى الأصوليين بشكل عام تجديد الدين يعني العودة بالدين إلى ما كان عليه في صورته الأولى، في حين أنّ التجديد بالنسبة إلى غالبية الحداثيين يعني إعادة النظر في تفسير النص الديني، ومن الواضح أنّ الفهم الأصولي هو الأقرب إلى الصواب من الناحية اللغوية، وأمّا الفهم الحداثي لمفهوم التجديد فيشير إلى ثورة فكرية داخل أسوار الدين، لا خارجها.
ما أهمية هذا الاختلاف بين كلا الفريقين حول مفهوم تجديد الدين؟ من الناحية المعرفية الصرفة، لا يبدو هذا الاختلاف ذا أهمية، فلو افترضنا نجاح الأصوليين في تجديد الدين على الوجه الذي يريدون، فإنّ المحصّلة هي نجاحهم في إخضاع الحاضر إلى الماضي، لكن ليس من شأن هذا الإخضاع أن يضيف شيئاً إلى رصيد المعرفة البشرية في عصرنا الراهن، وبالمثل، لو نجح الحداثيون في تجديد الدين على النحو الذي يأملون، فقد يساهم هذا التجديد في "عصرنة الدين"، لكنه لن يُحدث ثورة معرفية في أيّ ميدان من ميادين المعرفة العلمية.
لكي ندلّل على حقيقة أنّ تجديد الدين لن يؤديَ إلى زيادة رصيد المعرفة البشرية في عصرنا الراهن، ينبغي أولا أن نلقيَ نظرة سريعة على تاريخ الثورات العلمية التي أضافت إضافة حقيقية إلى رصيد المعرفة البشرية، ففي ميدان علم الهندسة هيمن كتاب "العناصر" لإقليدس لأكثر من عشرين قرنا، وقد بلغت هذه الهيمنة إلى الدرجة التي جعلت فيلسوفا بقامة "كانط" يرتكب خطأ فادحا في بناء نظرية معرفية اعتمادا على مبادئ الهندسة الإقليدية، ثم يأتي القرن التاسع عشر ليُفسح المجال لثورة علمية تمثلت بالهندسة اللا إقليدية، ولولا هذه الثورة لما استطاع آينشتاين أن يقدّم في القرن العشرين تفسيراً هندسياً لمفهوم الجاذبية، وفي ميدان علم المنطق ظلّ المنطق الأرسطي سائدا منذ القرن الرابع قبل الميلاد إلى أواخر القرن التاسع عشر، القرن الذي شهد ولادة "المنطق الجديد" الذي تنعم التكنولوجيا الحديثة بتطبيقاته في عصرنا الحاضر.
تاريخ العلم مليء بأمثلة مشابهة لثورات علمية في ميادين متعدّدة من المعرفة، وبالرغم من كلّ تلك الثورات فلا أحد يتحدّث عن "تجديد العلم"، لأنّ العلم لا يتجدّد، بل يأتي بما هو جديد، والعلم يأتي بجديد لأنه لا يعطي أولوية معرفية لما هو قديم مهما كان هذا القديم قريبا من الحسّ السليم أو حتى من التقديس، فالهندسة اللا إقليدية ثارت على الحس السليم الذي يشير إلى أنّ الخطين المتوازيين لا يلتقيان أبداً، والمنطق الجديد أزال القدسية عن منطق أرسطو، وهنا إنّما يكمن الشرط الأساسي لظهور أيّ معرفة حقيقية، ونعني به إتاحة الحرية المطلقة للعقل البشري في الهدم والبناء المعرفيين من دون قيد أو شرط.
إنّ غياب هذا الشرط المؤدي تحقيقه إلى معرفة حقيقية يجعل الحديث عن إغلاق باب الاجتهاد أو فتحه غير ذي أهمية، ذلك أنّ أيّ نظام فكري لا يفسح المجال لنقد أصوله لن يفسح المجال أيضاً لنظام فكري جديد، وبالتالي فإن الحديث عن "دين جديد" هرطقة واضحة في المفهوم الديني، في حين أنّ الحديث عن "علم جديد" إنجاز عقلي يُضاف إلى إنجازات العقل البشري، وما أكثرها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق