قبل أيام، انتشر شريط مصوّر حول النزاع الذي جرى أمام مبنى صحيفة "الوطن" بين رجال الشرطة ومُلاك الصحيفة، وقد تضمّن الشريط قدراً لا بأس به من السّباب المتبادل بين الطرفين المتنازعين، والسباب في حد ذاته لا ينبغي أن يثير الانتباه، فالألفاظ البذيئة تطرد الألفاظ المحترمة في عصور الانحطاط، لكنّ الأمر الذي هو خليق بإثارة الانتباه يتعلّق بما ردّده أحدهم، موجّهاً كلامه إلى اللواء عبدالفتاح العلي، حيث صاح يقول: "يا بوأحمد ما تقدر على المشيخة"!
ما الذي يثير الانتباه في هذه الجملة؟ لا يبدو أنّ الأمر متعلّق بمحتواها، فهناك دلائل كثيرة تشير فعلاً إلى أننا في الكويت إلى دولة "المشيخة" أقرب منّا إلى دولة القانون، ومن تلك الدلائل – على سبيل المثال لا الحصر– أسماء العديد من الشوارع العامة والمناطق السكنية، وأسماء الكثير من الأشخاص في المناصب القيادية، كما أن شيوع مصطلح "هيبة الشيوخ" يدلّ على أننا أبعد ما نكون عن المجتمع المدني، وأقرب ما نكون إلى المجتمع العشائري، وليس هذا بالأمر الجديد، فتعبير "الأسرة الواحدة" ورد أكثر من مرّة في محاضر لجنة صياغة الدستور، وهو تعبير يعكس سذاجة العملية الديمقراطية وأصالة العقلية العشائرية في مجتمعنا، ذلك أنّ ولادة أي دستور تتم على أيدي أطراف تختلف في توجهاتها وتتحد في احترامها لهذا الميثاق الجديد الذي تنوي التقيّد به، أي الدستور، وأمّا "العائلة الواحدة" فليست في حاجة إلى دستور، بل إلى ربّ أسرة يدير شؤونها.
"يا بوأحمد ما تقدر على المشيخة"... جملة تكشف أكثر ما تكشف عن رذيلة الخنوع المتأصلة، والخنوع درجات، بعضها لا يتعدّى التباهي بتعليق صورة مع "شيخ"، وبعضها الآخر يذهب إلى حدّ تقبيل الأكتاف والأيادي، كما أنّ الخنوع مراتب، فهناك "صبيان البشت"، وهناك "صبيان الدينار"، وما يجمع بين الفريقين هو التفنّن في إظهار ألوان الخنوع لأولياء النعمة.
الخانعون في مجتمعنا ليسوا كأبطال "دوستوفيسكي" في روايته "مُذلون مُهانون"، فنحن لسنا أمام أناس أذلّهم الدّهر وأهانهم رغماً عنهم، بل أمام أناس احترفوا الذلّ والمهانة عن طيب خاطر، وإذا وقف الدّهر في وجوههم، تباكوا على ضياع حِرفة الذل والمهانة بعد أن تخلّى عنهم أولياء نعمتهم، وصدق "كانط" إذ كتب يقول في كتابه الشهير "ميتافيزيقا الأخلاق": مَن يجعل من نفسه دودة لا يجب أن يغضب عندما يدوسه الآخرون"!