ثورات الربيع العربي– إن صحّت تسميتها بالثورات وإن صحّ وصفها بالربيع– لم تكن تجسّد أفكاراً مدروسة بقدر تجسيدها لمشاعر مكبوتة، مشاعر القهر والظلم والمهانة، فالشعارات التي رُفعت في الساحات والميادين، والتي كانت تشير إلى مفاهيم مثل الحرية والعدالة والكرامة، لم تكن سوى شعارات ثائرة على نقائض تلك المفاهيم، فشعار الحرية كان يعني فقط رفض العبودية من دون تحديد معنى الحرية المنشودة، وشعار العدالة كان يعني فقط رفض الظلم من دون توضيح نوع العدالة المبتغاة، وشعار الكرامة كان يعني فقط رفض المهانة من دون تبيان ملامح الكرامة التي تهفو إليها النفوس.
لقد كشفت ثوارت الربيع العربي عن قوّة الحراك الشعبي وضعف الناتج الفكري، كما كشفت أيضا عن حقيقة أننا كنّا ضائقين ببشاعة الماضي من دون أن نكون مستعدّين لتحدّيات المستقبل، هي ثورات ردّة فعل لم تعقبها خطوات مدروسة، ولهذا فقد عبّرت عن رغبة عنيفة في الهدم، لا عن رؤية عميقة للبناء، ولا ننسى أنّ الشعار الشهير لكل الثورات العربية كان يشير إلى إسقاط الأنظمة من دون أدنى تصوّر لبناء أنظمة جديدة على أنقاضها، لكن ماذا حدث بعد سقوط بعض الأنظمة العربية؟ إذا كنّا عاجزين عن التنبؤ بقيام ثورات الربيع العربي فما كان ينبغي– على الأقل– أن نعجز عن التنبؤ بما ستؤول إليه، فالشعوب التي لا تملك جديداً ليس بوسعها أن تأتيَ إلاّ بما هو قديم، وقديمنا تلخّصه كلمة واحدة: اللاعقلانية.
من جهة، جاء الربيع العربي مبكّرا جدا، جاء قبل أن نتمكّن من إرساء دعائم المجتمع المدني، ومن جهة أخرى، جاء الربيع العربي بعد فوات الأوان، جاء بعد أن فشلنا طوال قرون بأكملها في إحداث قطيعة مع السلطة المعرفية للتراث، فكانت النتيجة أنْ أسفرت الثورات عن حروب طائفية وقتل على الهوية وإبادة جماعية، وهي نتيجة طبيعية لكسر أغلال الحاضر قبل كسر أغلال الماضي، ولتحرير الإنسان العربي قبل تحرير العقل العربي.
كتب "برتراند رسل" يقول إنّه لن يموت أبداً من أجل أفكاره لأنها قد تكون أفكاراً خاطئة، وقبله كتب أبو بكر الرازي يقول في رسائله الفلسفية "إنّ الذي ينبغي أن يُشكّ في صحته هو ما اجتمع عليه كلّ الناس أو أكثرهم أو أحكمهم"! لم تسد مقولة "رسل" في ثقافتنا المعاصرة فصدّرنا إلى العالم أسماء مثل "بن لادن" و"أبو مصعب الزرقاوي" و"أبو سيّاف الفلبيني"، في حين سادت مقولة "الرازي" في الثقافة الغربية حتى خرج من بينهم "كوبرنيكوس" و"داروين" و"آينشتاين"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق