لا يمكن أن نفهم فكرة "الاقتصاد الإسلامي" من دون أن نضعها في سياق إشكالية الهوية الإسلامية في النصف الأول من القرن العشرين، ذلك أنّ الحاجة إلى إثبات التمايز في نمط الاقتصاد عن الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي لم تكن سوى حالة خاصة من الحاجة إلى إثبات التمايز في الهوية عن "الغرب المسيحي" و"الشرق المُلحد"، وهذا ما نراه واضحا جليا في كتابات المفكر الإسلامي الشهير "أبو الأعلى المودودي"، مؤسس "الجماعة الإسلامية" في الهند قبل التقسيم، والأب الروحي للتيار الإسلامي في باكستان منذ انفصالها عن الهند، وأحد أبرز مُلهمي أقطاب "الصحوة" في العالم العربي من أمثال سيد قطب ومحمد باقر الصدر، ولعلّنا لا ننأى عن الصواب إذا قلنا إنّ المودودي سبق حسن البنّا في الدعوة إلى فاشية إسلامية، فهذا الأخير بدأ في عام 1928 بداية متواضعة اقتصرت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمّا المودودي فكان شعار المجلة التي أسسها في عام 1932: "احملوا أيها المسلمون دعوة القرآن وانهضوا، وحلّقوا فوق العالم"!
إذا كانت فكرة "الاقتصاد الإسلامي" تخدم محاولات النهوض بالبعث الإسلامي وإحياء أيديولوجية مستقلة، فإنّ تطبيق هذه الفكرة على أرض الواقع من شأنه تسويق تلك الأيديولوجية، والتطبيق بدأ فعليا في منتصف السبعينيات مع قيام مصرف دبي الإسلامي وبنك فيصل الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ "تأسيس" ما يسمى بالمصارف أو البنوك الإسلامية ينطوي على حقيقة من جهة، وادّعاء من جهة أخرى، فأمّا الحقيقة فهي أنّ تراثنا الإسلامي لم يعرف المصارف طوال تاريخه، وأمّا الادّعاء فيشير إلى أنّ البنك الإسلامي يختلف اختلافاً جوهرياً عن البنك التقليدي، وجوهر الاختلاف يدور في مجمله حول مفهوم "الربا"، ولعلّ أوّل مَن انتقد هذا المفهوم هو أرسطو في كتابه الشهير "السياسة"، حيث كتب يقول إنّ المال في أصل نشأته كان مجرّد وسيلة لتبادل السلع، ولذا ينبغي أن يُستعمل في الشراء فقط، لا أن يُستعمل بهدف الإقراض وجني أرباح من وراء هذا الهدف، وقد استعان بعض فقهاء المسلمين وفلاسفتهم من أمثال ابن رشد والغزالي بحجج مشابهة لحجة أرسطو في حرمة الربا إلى جانب استعانتهم بالحجج الشرعية المعروفة، وقلّدهم في ذلك الفلاسفة المدرسيون الذين يحرّم دينهم المسيحي الربا أيضا (مع الأخذ بالاعتبار الاختلاف البسيط حول مفهوم الربا في المسيحية والإسلام).
كيف استطاعت البنوك الإسلامية التعامل مع حُرمة الربا؟ هذا سؤال غير بريء، وقبل أن نجيب عنه، ينبغي أولا استعراض واحدة من أبرز المعاملات المالية في المصارف الإسلامية، ونعني بها "المرابحة"، والفقهاء المحدثون يفرّقون بين المرابحة الفقهية القديمة والمرابحة البنكية الحديثة، ويُبيّن أتباع الشيخ محمد علي فركوس الفوارق الجوهرية بين هذين النوعين من المرابحة على النحو التالي:
"أولا: من حيث العقد: فالمرابحة الفقهية تنعقد مرة واحدة في مجلس العقد، أما المرابحة البنكية فتتم على مرحلتين: مواعد ثمّ معاقدة، ومن جهة أخرى فإن المرابحة الفقهية تشتمل على طرفين (بائع ومشترٍ)، بينما المرابحة البنكية فثلاثية الأطراف: (العميل وهو الآمر بالشراء، والبنك، والبائع المالك للسلعة).
ثانيا: من حيث السلعة: فهي في المرابحة الفقهية حاضرة يمتلكها البائع، وتكون في المرابحة البنكية غائبة ولا يمتلكها البنك، كما أن البائع في المرابحة الفقهية يشتري السلعة لنفسه سواء للانتفاع أو للمتاجرة، وفي المرابحة البنكية لا يشتريها البنك إلا لبيعها.
ثالثا: من حيث الثمن: فهو في المرابحة الفقهية معلوم، وفي الأخرى حال المواعدة مجهول عند بنوك دون أخرى، ومع ذلك يلزم الآمر بالشراء بوعده.
رابعا: من حيث الربح: فهو في المرابحة الفقهية مقابل الجهد والوقت والمخاطر، وفي المرابحة البنكية نظير التأجيل". (المصدر: http://ferkous.com/home/?q=rodoud-13)
ثمّ يورد أتباع الشيخ فركوس مجموعة من المؤاخذات الشرعية على المرابحة البنكية، منها تعاقد البنك والعميل على سلعة لا يملكها أيّ منهما، وعقد بيعتين في بيعة واحدة، وغيرها من المخالفات الشرعية التي لا تعنينا في هذا المقام، وإنما ما يعنينا هو المصدر الذي خرج منه مفهوم "المرابحة البنكية" وغيرها من المعاملات المصرفية، بغرض الوقوف على حقيقة "الاقتصاد الإسلامي" الذي يبدو أنه ما زال مقتصرا على القطاع المصرفي. يتبع،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق