هناك تناقض اصطلاحي في عنوان هذا المقال، يُشبه إلى حدّ كبير التناقض الاصطلاحي في قولنا "مُربّع دائري"، لكن بينما يستحيل العثور على مربّع دائري في هذا الكون الفسيح، يسهل العثور على دكتور طائفيّ في مؤسساتنا التعليمية، ومثل كلّ التناقضات التي تبعث على الدهشة والتساؤل، تطرح ظاهرة "الدكتور الطائفي" سؤالا مُلحّاً: كيف بمن يحمل أعلى الدرجات الأكاديمية أن يكون طائفياً؟ مصدر الإلحاح في هذا السؤال ناتج عن افتراض ضمني مفاده أنّ الدكتوراه والطائفية لا تجتمعان، أو لا ينبغي لهما أن تجتمعا، وهذا المقال محاولة للدفاع عن هذا الافتراض، مع التأكيد بطبيعة الحال على أنّ هناك من الأُمّيين ممن لم تجد الطائفية طريقا لها إلى قلوبهم ونفوسهم.
كلّ طالب خاض تجربة حقيقية أثناء فترة الدراسة في مرحلة الدكتوراه يدرك جيداً ما تنطوي عليه هذه التجربة من إثراء على الصعيدين الأخلاقي والفكري، فعلى الصعيد الأخلاقي تتأصل عند الدّارس قيم أخلاقية في غاية الأهمية، منها التسامح مع الآراء المغايرة، والاعتراف بالخطأ، والحفاظ على جهود الآخرين، وأمّا على الصعيد الفكري فإنّ الدارس يكتسب مهارات عدّة، لعلّ أهمها مهارة التفكير بطريقة نقدية ومستقلّة، فالقدرة على النقد الموضوعي والجرأة على الاستقلال الفكري خصلتان لا غنى لأي باحث عنهما، في حين أنّ النقد المنحاز والتبعية الفكرية لا يدلّان على حرص الباحث على الوصول إلى الحقيقة، بل يفضحان حرصه على إقناع الآخرين بما يراه حقيقة.
ماذا عن الطائفية؟ هي رذيلة تدفع الفرد إلى أن يكون مجرّد مشجّع في عِراك، ومجرّد مقلّد في نقاش، ومجرّد رقم في عُصبة، ذلك أنّ الثغاء بين القطيع أجمل عند الطائفي من التغريد خارج السرب، والطمأنينة الزائفة أهون عليه من القلق الحقيقي، والاقتداء أحبّ إليه من الإبداع، والتماهي مع المألوف أيسر عنده من الخروج عنه، والتفكير فيما يقرأ أشقّ على عقله من الحفظ لما يسمع، هو مُستضعفٌ إذا انفرد ومُستكبرٌ إذا اجتمع، كما أنه يَحمدُ لغير المنتمين إلى طائفته إنصافهم إيّاها، في حين يُنكر على المحسوبين على طائفته عقوقهم لها!
المربّع الدائري والدائرة المربّعة لا وجود لهما، فالمربّع مربّع والدائرة دائرية، وبالمثل، الدكتور الطائفي لا وجود له في واقع الأمر، فإما أن تكون سنوات البحث الجاد عاصماً للباحث من السقوط في وحل الطائفية، وإمّا أن تكون الطائفية شاهداً على ضياع تلك السنوات هباء منثوراً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق