أولى ضحايا الحرب– كما يقولون– هي الحقيقة، لكن ماذا يعني أن تكون الحقيقة ضحية من ضحايا الحرب؟ على العكس من باقي ضحايا الحرب، لا تموت الحقيقة بل تغيب لتظهر من جديد، تظهر بعد أن تضع الحرب أوزارها، وبعد أن تخفّ حدّة الاستقطاب بين طرفي الصراع، وبعد أن تتلاشى المصالح التي من أجلها قُرعت طبول الحرب، وأمّا غياب الحقيقة فمعناه هو أنّ الأسئلة المرتبطة بالحرب لها إجابات متناقضة، فالسؤال– مثلا– عن سبب نشوء الحرب تختلف إجابته باختلاف طرفي الصراع، والوسيلة التي يلجأ إليها كلّ طرف لترويج إجابته المفضّلة تسمّى "البروباغندا"، وهي تعبير منمّق عن آفة أخلاقية اسمها "الكذب".
إذا كانت الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب، فما ذلك إلّا لأنّ البروباغندا هي أوّل سلاح يلجأ إليه طرفا الصراع، واللجوء إلى هذا السلاح له ما يُبرّره لأنّ الحرب لابدّ أن يكون لها ما يُبرّرها، وتبرير قيام الحروب أسهل من شرب الماء، فكم من حرب قامت من أجل "ترسيخ الديمقراطية"، أو "محاربة الإرهاب"، أو "المحافظة على الأمن والاستقرار"، وهذه كلّها أهداف نبيلة يقف الطرف الآخر حجر عثرة في طريق تحقيقها، ولو حدث أن تجرّأ فرد على التشكيك في أسباب الحرب وغاياتها المعلنة، فإنّ تهمة الخيانة هي العاقبة التي تليق بكلّ مشكك!
الإنسان الموضوعي يشبه القاضي العادل، فهو لا يصدر حكمه إلّا بعد أن يستمع إلى طرفي النزاع، وعندما تتناقض رواية أحد الطرفين بكل تفاصيلها مع رواية الطرف الآخر، فإن الحقيقة عادة ما تقف على نقطة وسط بين الروايتين، ولكنّ اكتشاف الحقيقة يتطلّب أولاً إخلاصاً في طلبها، ويتطلّب ثانياً جُهداً في الوصول إليها، ويتطلّب ثالثاً حياداً في التعامل معها، وهذه كلّها متطلّبات صعبة في زمن الحرب، حيث تقضي سخونة العواطف على برودة الإخلاص، وحيث تقف البروباغندا عائقا أمام الحصول على المعلومة الموثوقة، وحيث تأبى المصالح إلّا أن ينحاز المرء لطرف ضدّ آخر.
حُبّ الحقيقة ليس صفة فطرية في فصيلة الإنسان، في حين أنّ قابلية التصديق توشك أن تكون كذلك، ولعلّ سرّ نجاح البروباغندا في زمن الحروب وانتشارها على نطاق واسع يكمن هنا، فعندما يكون الشك رذيلة والتصديق فضيلة، وعندما يكون التفكير مشقّة والتسليم مسرّة، وعندما يكون معيار الصواب مرتبطاً بهوية أطراف الصراع، فإنّ الحقيقة هي الضحية رقم واحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق