الشريعة الإسلامية، مثل كل الشرائع السماوية الأخرى، تقع ضمن ميدان البحث الذي نسميه "القانون”، والقانون ليس علماً بالمعنى الدقيق لكلمة علم، ذلك أنّ الهدف الجوهري لكلّ علم هو اكتشاف قوانين تحكم ظواهر الطبيعة بكل أشكالها، في حين أنّ القانون يتألّف من قواعد متواضعٌ عليها، وبينما يدفع الفضول العلمي العلماء إلى فهم القوانين التي تسيّر الكون، يدفع الواقع العملي أهل القانون إلى سنّ تشريعات تنظم المجتمع.
القانون ليس عِلماً، وبالتالي الشريعة الإسلامية ليست عِلماً أيضا، وبالرغم من أنّ هذا لا يعني نفي أيّ دور للعقل الإنساني في ميدان الشريعة الإسلامية، فإنّ هذا الدور محدود جدّا، ومحدوديّة دور العقل هنا تتمثّل بحقيقة أنّ العقل لا يُستخدم كأداة معرفية في ميدان الشريعة الإسلامية، بل هو مجرّد أداة قياس، ونظراً لأنّ كلّ أداة قياس هي عبارة عن عقد مقارنة بين معطيات ومعيار، فإنّ إعمال العقل في شؤون الشريعة مقتصر بوجه عام على عقد مقارنة بين معطيات الواقع ومعيار النص، وهي مقارنة لا تهدف إلى اكتشاف معرفة جديدة، بل لا تهدف حتى إلى استصدار حُكم جديد، إنّما تقتصر على محاولة توسيع نطاق حُكم قديم ليشمل مُعطى جديداً.
لنضرب مثالاً كي نوضح ما نعني، فالقياس– كما هو معروف– هو أحد مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن والسنّة والإجماع، وله أركان أربعة هي الأصل (القضية التي ورد فيها نص شرعي) والفرع (القضية التي لم يرد فيها نص شرعي) والعلّة (الوصف المشترك بين الأصل والفرع) وحُكم الأصل (الحُكم الشرعي الذي يتعدّى الأصل إلى الفرع)، وأحد أشهر الأمثلة على القياس عند الأصوليين هو تحريم النبيذ قياسا على تحريم الخمر، فالخمر هنا هو الأصل، والنبيذ هو الفرع، والإسكار هو العلّة المشتركة بينهما، وحُكم الأصل هو الحكم الشرعي الذي ينصّ على تحريم الخمر، وتقتصر وظيفة العقل في هذا المثال على إثبات وجود عامل مشترك بين الخمر والنبيذ، أي علّة الإسكار في كليهما، ليتسنّى بعد ذلك استخراج حُكم الفرع، أي الحُكم بتحريم النبيذ، ومن المعروف أنّ حُكم الفرع ليس من أركان القياس، لكن ما يهمّنا من خلال هذا المثال هو التأكيد على حقيقة أنّ حُكم الفرع لا يُشير إلى حُكم جديد بقدر إشارته إلى توسيع نطاق التحريم لحُكم قديم، فهو حُكم يشير فقط إلى أنّ تحريم الخمر يشمل أيضا تحريم النبيذ.
ماذا عن دور العقل في المصادر الأخرى للتشريع الإسلامي؟ ليس من المنطقي أن يكون للعقل دورٌ أكبر من دوره في القياس، فإذا كانت وظيفة العقل محدودة جدا حتى في القضايا التي لم يرد فيها نص، فلا غرابة أن تكون وظيفته شبه معدومة في القضايا التي ورد فيها نصّ أو حظيت بإجماع، وأمّا الاجتهاد فيراه بعضهم مرادفاً للقياس ويراه البعض الآخر أشمل وأعمّ، ومهما يكن من أمر فإنّ قاعدة "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص" كفيلة بتحجيم دور العقل وإخضاعه للنقل.
هناك تعليق واحد:
الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ثم يعطينا شرائع مخالفة لها، فالعقل قبل النقل والقول بترجيح النقل على العقل محال لأن العقل أصل النقل فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا أصل النقل ومتى كذبنا أصل النقل فقد كذبنا النقل فتصحيح النقل بتكذيب العقل يستلزم تكذيب النقل فعلمنا أنه لا بد من ترجيح العقل كما يقول فخر الدين الرازي، البعض قد يفسر معنى الإيمان هو التسليم المطلق و الأعمى للنص الصحيح حتى لو كان يتعارض مع العقل الصريح، بالتالي كلمة إيمان في مذهبي هي كلمة تدل على التبعية العمياء و هي نقيض التفكير فالمؤمن هو من يسلم تسليم كلي للنص و هذا يستوجب عليه ان يفكر بمعنى النص فقط لا أن يتعداه بتفكره فهو محصور داخل نطاق النص فقط و هذه هي المشكلة التي نعاني منها في مجتمعنا المؤمن فالناس تعتقد ان الأمور تكون صحيحة اذا مانت تتطابق او تتلاءم مع الكيفية التي وجد عليها النص حتى لو مان ذلك لا يتكيف ولا يتلاءم مع الكيفية التي وحدت عليها الأمور على أرض الواقع ... و دمتم لفعل الخير سالمين يا دكتور ��
إرسال تعليق