الدين دين والعلم علم، واحترام الخط الفاصل بين الاثنين شرط ضروري لإصلاح التعليم، فالدين– في مجتمعاتنا على الأقل– عبارة عن معرفة غير قابلة للنقض أو الشك، في حين أنّ العلم لا يتقدّم إلاّ من خلال إخضاع كل معرفة مكتسبة إلى النقض أو الشك، ومع ذلك فإنّ التدريس الديني في مراحل التعليم كافة لا يقتصر على المناهج المتعلقة بالدين، بل يتعدّاها إلى معظم المناهج الأخرى ومن ضمنها المناهج العلمية الصرفة، بل إنّ جامعاتنا تحوي أقساما توصف بأنها أقسام علمية مثل "قسم التربية الإسلامية" أو "قسم الشريعة الإسلامية"، وهي أقسام لا تشبه الأقسام العلمية في الجامعات العالمية لا من قريب ولا من بعيد، فهي لا تدرّس الدين دراسة علمية ولا تقارن بين الأديان بطريقة موضوعية، بل إنّ جلّ اهتمامها ينصبّ على تدريس تقليديّ يعتمد على تلقين معرفة لا تخضع لشروط البحث العلمي، ومع ذلك تسمى أقساماً علمية!
لا يترتب على ما تقدّم استحالة أن يكون الدين موضوعا للبحث العلمي، ولكن البحث العلمي له شروط غير متوافرة في التدريس الديني المقرّر في مراحل التعليم كلّها، فالبحث العلمي الرصين لا يعترف بسلطة غير سلطة العقل، وهذه الحقيقة كافية لإثبات عدم ملاءمة التدريس الديني التقليدي للبحث العلمي، كما لا يترتب على ما تقدّم أدنى اعتراض على وصف بعض الأقسام بالعلمية لمجرّد أنّ موضوع بحثها غير علمي، فهناك أقسام علمية تُعنى بدراسة الآداب والفنون، ولكنّ الفرق الجوهري هنا هو أنّ الآداب والفنون، على العكس من الدين، لا تضع قيودا على حرية البحث العلمي ولا تتعارض دراستها بالضرورة مع السلطة المطلقة للعقل الإنساني.
لكن ما المشكلة في وجود تدريس ديني جنبا إلى جنب مع التدريس العلمي؟ بمعنى آخر، ما الضرر في عدم احترام عِلمانية التعليم؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال طرح مثال من واقع تجربتي القصيرة في مجال التدريس، فمن حسن حظي أنّي أقوم بتدريس إحدى المواد التي ترتبط ارتباطا وثيقا بعلم المنطق، وهي مادة "علم الدلالة"، وأغلب الطلّاب المقيدين في هذه المادة هم طلاب قسم التربية الإسلامية، ومهما أنس فلن أنسى تلك المحاضرة التي حاولت من خلالها شرح مفهوم "الجملة التحليلية"، حيث قلت إنها جملة صحيحة دائما، مثل جملة "أخي الأكبر أكبر مني"، وهي جملة صحيحة دائما لأنّ صحتها لا تعتمد على مدى توافقها مع معطيات الواقع، بل تعتمد فقط على التحليل المنطقي لمفردات الجملة، وكي أطمئن إلى أنّ الطلاب قد فهموا المقصود بهذا المفهوم، طلبت منهم أن يأتوني بمثال آخر على الجملة التحليلية، فإذا بأحدهم يجيب: "الخمر حرام"!
الجدير بالاهتمام في هذه الواقعة لا يكمن في عجز الطالب عن فهم أحد المصطلحات العلمية، بل يكمن في معرفة السبب وراء هذا العجز، وفي ظني أن السبب يعود إلى التمازج الشديد بين التدريس الديني والتدريس العلمي في مؤسساتنا التعليمية، وهذا التمازج هو المسؤول عن عدم قدرة معظم الطلاب على التفريق بين اليقين الديني واليقين المنطقي، أو بين الدليل الفقهي والدليل العلمي، أو بين الحجة الدينية والحجة العلمية، أو بين المُسلّمات الغيبية والمُسلّمات المنطقية، وغيرها الكثير من الفروق الجوهرية بين ميدان التلقين الديني وميدان البحث العلمي.
علمانية التعليم مجرّد حالة خاصة من علمانية الدولة، وهي لهذا السبب تبقى مجرّد ظاهرة افتراضية في دولة تمزج بين الدين والسياسة، لكن لا ننسى أن التغيير– إلى الأفضل أو إلى الأسوأ– في أي مجتمع يبدأ عادة في قاعة الدرس.
هناك تعليق واحد:
و أضيف بأنه من المستحيل أن تتحقق علمانية التعليم طالما كان الهدف الأسمى و المرجو من تقديم الاستاذ لأي معرفة علمية أن يثبت بها الإعجاز العلمي بالقرآن و السنة !!
دمت بخير استاذي،،
إرسال تعليق