من الصعب معرفة ماذا كان يدور في عقل ذلك الشاب الانتحاري حينما شرع في تنفيذ جريمته الخسيسة، لكن– في المقابل– من السهل التكهن بنوع الأسئلة التي لم تخطر له على بال طوال حياته القصيرة، ولعلّ السؤال الأبرز هو: ماذا لو كنتُ مخطئا؟ السؤال بسيط في صياغته، إلّا أنّ مجرّد طرحه يتعارض مع عقلية التعصّب التي من شأنها التمسّك المستميت بآراء صارمة مهما يكن من ثمن، ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا حول هذه النقطة على وجه الخصوص، فالتعصّب لا يقتصر على "الفئة الضالة" كما تصفهم وسائل الإعلام، بل إنه جزء من ثقافة أمّة ما زالت تؤمن بأنها خير أمم الأرض، ولا أقول ذلك من باب جلد الذات، إذْ لم يبقَ في ذواتنا مكان يصلح للجلد، لكني أكتفي بوصف واقع نعيشه ولا نريد أن نراه، الواقع الذي توارثناه جيلا بعد جيل رغم صخب المتغنّين بسماحة "الزمن الجميل"، فالسماحة لا تذهب إلى أبعد من مجرّد التعايش السلمي بين الفُرقاء، لكنها لا تزيل الفُرقة، والفُرقة ثمرة التعصّب، وهذا الأخير يستحيل اجتثاثه من جذوره من دون أن نتجرّأ على مواجهة السؤال الغائب عن حضارتنا طوال تاريخها: ماذا لو كنّا مخطئين من الألف إلى الياء؟
السؤال السابق سؤال افتراضي، وإحدى أهم وظائف الأسئلة الافتراضية هي مساعدتنا على التفكير خارج الصندوق كما يقولون، والتفكير خارج الصندوق بالنسبة إلى المتعصّبين مثل التنفّس خارج الماء بالنسبة إلى الأسماك، ولهذا فإنّ معالجة التطرّف يجب ألا تقتصر على تأليف النفوس وترويض القلوب، بل ينبغي أيضا تحرير العقول مما لحق بها من تلقين وتسليم وتهجين! تعلّمنا منذ نعومة أظفارنا أنّ الإنسان يولد مُسلما بالفطرة، وإنْ نشأ يهوديا أو نصرانيا فإنّ مردّ ذلك إلى أبويه اللذين هوّداه أو نصّراه، لكننا مع ذلك لا نترك أطفالنا وفطرتهم، بل نُؤَسْلمهم إلى أدقّ التفاصيل، فما يحقّ لنا لا يحقّ لغيرنا، وكلمة "غيرنا" هنا لا تشير فقط إلى الديانات الأخرى، بل تشمل أيضا كلّ الفرق المنحرفة عن "الإسلام الصحيح" والتي لم تسلك مثلنا طريق "الفطرة السليمة"!
ما الذي يبرّر يقيني بأني على صواب؟ وما الذي يجعل ضميري مرتاحا في قصر عضوية "الإسلام الصحيح" على طائفتي دون الطوائف الأخرى؟ ثمّ ما الذي يجعلني واثقا من نفسي إلى هذا الحدّ؟ لا يبدو أنّ الإجابه عن كلّ هذه الأسئلة تكمن في الاستشهاد بالنصوص الدينية، فالطرف الآخر لديه أيضا ما يستشهد به، ولا يكفي القول إنّ استشهادي صحيح واستشهاد خصمي باطل، ذلك أنّ خصمي باستطاعته أيضا أن يلجأ إلى إجابة مماثلة، كما لا يكفي الإحالة إلى الشيخ الفلاني، لأنّ الطرف الآخر سيحيلني بدوره إلى السيد الفلاني! هل نتعارك؟ تعارك غيرُنا وما زالوا يتعاركون، فالمعركة الدينية لا تنتهي إلّا عندما يُقصي طرف الطرف الآخر، والعاطفة الدينية كفيلة باستمرار المعركة حتى تصل إلى هذه النهاية المأساوية، كيف لا وكلّ طرف يدّعي أنّ الله معه وأنّ الملائكة تقاتل إلى جانبه؟ من الواضح أننا لم نرث عن أسلافنا أفكارهم فحسب، بل ورثنا عنهم أيضا الفشل في حلّ نزاعاتنا بطرق سلمية!
لكن أين يكمن موضع النزاع؟ عندما يتخاصم الأطفال على ملكيّة الكرة أثناء اللعب، يأتي الأب الغاضب ليغرز سكينا في بطن الكرة ويئد الفتنة، لكن لسنا في حاجة إلى مثل هذا الحلّ الراديكالي لوأد التعصّب الديني، بل إنّ ما نحتاجه– في الوقت الراهن على الأقل– هو تعلّم الروح الرياضية في تمرير الكرة من طرف إلى آخر مع السماح لأولئك الذين لا يحبون لعب الكرة بالانسحاب من الملعب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق