بالرغم من أنّ مجتمعنا يُعدّ من أعتى المجتمعات الاستهلاكية، فإننا مع ذلك قلّما نستهلك القراءة، ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ القراءة أشبه بعادة غريبة على بيئتنا، ذلك أن القيم التي تتطلّبها القراءة تقف على النقيض من القيم التي رسّختها البيئة في نفوسنا، فالقراءة تتطلب صبراً تفضح شوارعنا المرورية فقرنا إليه، والقراءة تتطلّب خلوة تفضح مقاهينا الشعبية تبرّمنا بها، وإذا كنّا أشبه بالإغريق القدماء من حيث التمتّع بفائض الوقت الذي يتيحه لنا الأقنان والخدم، فإنّ الفرق كبير بين مَن استثمروا الوقت لإنتاج الفلسفة ومَن استثمروه لإنتاج الفسفسة، والفسفسة تعني الحماقة الشديدة، والصفة منها "فسفاس"، ولا يكاد يوم يمرّ إلّا ونلتقي بـ"فسفاس" عشرات المرّات في الشارع، أو في العمل، أو حتى في البيت من خلال التلفاز أو الهاتف النقّال، وإذا كانت الحماقة قد أعيت من يداويها، فإنّ لها دواء من دون شك، ودواؤها القراءة الجادة، ففي هذه حصانة عقلية ونفسية من داء الفسفسة الذي انتشر كما النار في هشيم هذا المجتمع الاستهلاكي بامتياز!
تجتاح مجتمعنا بين الحين والآخر حملات للتشجيع على القراءة، وهي تبدو أشبه بحملات الترويج لمنتج جديد، لكنها مع ذلك حملات غالبا ما تطرح السؤال الخطأ من قبيل "لماذا نقرأ؟"، وهو سؤال يفترض ضمنا أننا نقرأ، وواقع الأمر ينافي ذلك، كما أنه سؤال يهدف إلى تبيان "فوائد" القراءة، في حين أنّ مسألة القراءة في بيئتنا غير مرتبطة بجني الفائدة بقدر ارتباطها بتحقيق أقلّ قدر ممكن من الخسائر على مستويي العقل والروح، فعلى سبيل المثال، قد لا ترتبط قراءة "حوارات أفلاطون" بجني الفائدة بقدر ارتباطها بتطهير العقل من الحوارات السخيفة التي تسللّت إلى الأذن عن طريق المصادفة غير السارّة، وقد لا ترتبط قراءة "مدام بوفاري" بجني الفائدة بقدر ارتباطها بتصفية الروح مما لحق بها جرّاء مشاهدة برامج التحليل النفسي والوعظ الديني، بمعنى آخر، القراءة الجادة في بيئتنا ليست ترفاً، بل ضرورة، والضرورة هنا لا تنبع من رغبة طوباوية في النهوض بالمجتمع، بل من حاجة ماسة إلى الحفاظ على الذات، إنها أشبه بقطرة ماء في صحراء قاحلة، وأشبه بكسرة خبز في يوم ذي مسغبة، كما أنّ القراءة الجادة تعصم العقل من السذاجة، وترتقي بالروح عن المادة.
قد تنجح حملات القراءة الموسمية في تسليط الضوء على أهمية القراءة، ولكن الشيء المؤكد هو أنّ مكتباتنا تشبه مقابرنا في وحشتها، ولهذا التشبيه مدّة صلاحية تنقضي بحلول ذلك اليوم الذي يضاهي فيه عدد مُرتادي المكتبات عدد مُرتادي المساجد، ومن يدري؟ لعلّ عدد الراغبين في حصانة العقل والروح معاً يضاهي يوماً ما عدد الراغبين في العتق من النار، وحينئذ– حينئذ فقط– من غير المستبعد أن يبرز السؤال الجاد والمتعلّق بمدى إمكانية الجمع بين الرغبتين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق