عنوان هذا المقال يشير إلى مبدأ معروف في ميدان النظرية السياسية، ومثل أغلب المبادئ والمفاهيم النظرية، عادة ما يكون عُرضة للتشويه وسوء التطبيق، وسنحاول من خلال ما يلي تسليط الضوء على هذا المبدأ للتعرّف على وظيفته، ومدى أهميته، وحدود تطبيقه على أرض الواقع.
لكلّ فرد الحقّ في الدفاع عن نفسه، وبالمثل، لكلّ مجتمع الحقّ في الدفاع عن استقراره، وأحد أهم مظاهر هذا الاستقرار هو التعايش السلمي بين فئات المجتمع الواحد، بحيث لا تحجب فئة حقّ الوجود عن فئة أخرى، ووظيفة مبدأ "لا تسامح مع اللاتسامح" هي ضمان هذا التعايش السلمي في حدّه الأدنى، والمبدأ يرتكز على أرضية منطقية صلبة، ذلك أنّ الإخلال به يعني التسامح المطلق مع فئة اجتماعية غير متسامحة، وبالتالي اقتصار حقّ الوجود على هذه الفئة بعينها بعد أن قضى التسامح غير المحدود للفئات الاجتماعية الأخرى على وجودها!
مفهوم "التسامح المطلق" ينطوي على تناقض، وهو بذلك شبيه بمفهوم "الحرية المطلقة"، فمثلما أنّ الحرية المطلقة تفضي إلى قانون الغاب بحيث يكون البقاء للأقوى، فإنّ التسامح المطلق يخلق مجتمعاً يكون البقاء فيه مقتصرا على أشدّ الفئات الاجتماعية تطرّفاً، وهنا تحديدا تكمن أهمية مبدأ "لا تسامح مع اللاتسامح"، فهو بمنزلة الضريبة التي يتعيّن دفعها لضمان التعايش السلمي في مجتمع واحد، والضريبة هنا تكمن في ضرورة أن يتنازل المجتمع المتسامح عن جزء من تسامحه في سبيل الحفاظ على استقراره.
سبق أن أشرنا إلى التشابه بين حق الفرد في الدفاع عن نفسه وحق المجتمع في الدفاع عن استقراره، ولهذا التشابه وجه آخر من حيث حدود تطبيق كلا النوعين من الحقوق، فإذا كان القانون يمنح الفرد حق الدفاع عن نفسه، فإنّ القانون يتطلّب أيضا إثبات حجة الدفاع عن النفس، وبالمثل، إذا كان مبدأ "لا تسامح مع اللاتسامح" يمنح المجتمع الحق في عدم التسامح مع فئة اجتماعية غير متسامحة، فإنّ هذا المبدأ يتطلّب أيضا إثبات عدم تسامح تلك الفئة مع فكرة التعايش السلمي، ولهذا ينبغي تطبيق هذا المبدأ في أضيق الحدود، إذ لا يجوز التوسع في استخدامه كذريعة لإخضاع فئات اجتماعية أو سياسية غير مرغوب في وجودها.
الشعارات التي تدعو إلى أيديولوجية فاشية، أو مذهبية دينية، أو عنصرية عرقية، كلها شعارت تنطوي على كراهية الآخر ونبذه، وهي بذلك تقوّض استقرار المجتمع وتهدّد التعايش السلمي بين مكوّناته، وإزاء هذه الشعارات غير المتسامحة لا ينبغي التسامح أبدا.