كم من جاهل جرى خلف الشهرة فأدركها، وكم من حاذق أدركته الشهرة فراغ عنها، ولعلّ من المفيد أن نتساءل عن السبب وراء هذا التباين في الموقف من الشهرة: لماذا هي محمودة عند الجاهل، ومذمومة عند الحاذق؟ يبدو لي أن الإجابة عن هذا السؤال على علاقة مباشرة بمفهوم «الكرامة الإنسانية»، والمقصود هنا بالكرامة احترام الإنسان لذاته وعدم امتهانها بأيّ شكل من أشكال الامتهان، وعلى ضوء هذا التعريف سنحاول فيما يلي الإجابة عن السؤال المطروح من خلال الإشارة إلى ثالوث من المفاهيم: الشهرة، والكرامة، والمهارة.
لو تأملنا سيرة المشاهير الكبار عبر التاريخ لوجدنا أنّ أغلبهم كانوا يتمتعون بمهارة فائقة امتازوا بها عن غيرهم، وأمّا الشهرة التي نالوها فلم تكن سوى نتيجة طبيعية لمهاراتهم الفائقة، وغالبا ما يحرص هؤلاء المشاهير على مهاراتهم أكثر من حرصهم على الشهرة التي اكتسبوها بفضل تلك المهارات، بل إن منهم مَن يذهب إلى أبعد من ذلك فيحتقر الشهرة التي من شأنها أحيانا الانتقاص من كرامته، ولعل المثال الأبرز هنا هو آينشتاين، فعندما وصل هذا الفيزيائي العبقري إلى أميركا، أبدى امتعاضه من هوس الشعب الأميركي بالمشاهير وشؤون حياتهم الخاصة، وعندما كثرت عروض الشركات التي انهالت عليه للظهور في إعلان تسويقي لمنتجاتها، سخر من تلك العروض بقوله: «هؤلاء المسوّقون الأغبياء لا يفرّقون بين طالب العلم والعاهرة»!
الشهرة –إذاً– ليست سوى تحصيل حاصل لما يتمتع به الأشخاص الموهوبون من مهارات فائقة، لكن من شأن الشهرة في أغلب الأحيان أن تكون غاية في ذاتها، وهي كذلك فعلا عند من يفتقرون إلى الموهبة ويصرّون مع ذلك على طلب الشهرة، فهؤلاء ينظرون إلى الشهرة بوصفها سلعة قابلة للمقايضة بسلعة أخرى، وغالبا ما تقف الكرامة على الطرف الآخر من المقايضة، والنتيجة الطبيعية هي أنهم يضيفون إلى افتقارهم إلى الموهبة افتقارهم إلى الكرامة، وهم بذلك أشبه بالأقزام في مسابقة «قذف الأقزام» المنتشرة في بعض الدول الغربية، لكن قد نلتمس العذر للأقزام في القبول بالإهانة المتمثلة بقذفهم في الهواء كالكرة لمجرد التسلية، إذْ لم يدفعهم إلى ذلك سوى الفقر والحاجة، لكن ما عذر أولئك الذين لا يخجلون من أن يكونوا موضوعا للسخرية على الملأ لفرط شغفهم بنيل الشهرة؟
ليس أشقّ على عبيد الشهرة من المثابرة على اكتساب مهارة حقيقية، وليس أيسر على نفوسهم من هدر كرامتها، وهنا يكمن السبب في أنّ عدد المشاهير من ذوي الموهبة الحقيقية أقل بكثير من عدد الذين اشتهروا على حساب احترامهم لذواتهم، ولا نذيع سرّا عندما نقول إنّ التفاهة أثمن من الرزانة في ميزان أغلب الجماهير ووسائل الإعلام، ولعلّ خطورة هذا الوضع البائس تتمثل برسالة ضمنية إلى الأجيال الناشئة مفادها أنّ المهارات الحقيقية لا تسمن ولا تغني من جوع، وأنّ الحماقة هي أقصر الطرق إلى الشهرة.
أخيرا، ينبغي التذكير بالحقيقة التالية، وهي أنّ الأحمق المشهور مشهور، ليس لأنه يستطيع القيام بشيء لا يستطيع غيره القيام به، بل لأنّه على استعداد تام لبيع ما لا يطيق غيره أن يبيعه، فماء الوجه أعزّ على النفوس الأبية من بريق الشهرة، وهذا ما لا يستطيع فهمه أبدا مَن كانت الشهرة غايته!
هناك 6 تعليقات:
كلام جميل جدا دكتور، وما أكثرهم هؤلاء الذين يسترخصون ماء وجوههم ،،،
لله درك
أجدت دكتور فهد
حوارك مع الفكرة وحول الفكرة يشد الانتباه
أحسنت دكتور ولكن ماعلاج هكذا مرض من وجهة نظرك
احسنت دكتور
احسنت دكتور وبارك الله فيك والله يكثر من امثالك ان شاءالله
إرسال تعليق