لا يمكن معالجة المشكلات العميقة بواسطة حلول سطحية، والاستقطاب الطائفي مشكلة تضرب جذورها عميقا في التاريخ الإسلامي، لذا من المستحيل التصدي لهذا الاستقطاب من خلال ردّات فعل لا تعدو أن تكون رمزية في معناها، كمثل الدعوة إلى الوحدة الوطنية أو إلى إقامة صلاة مشتركة بين المذهبين السني والشيعي، كما أنّ الدعوة المخلصة إلى تبني الدولة للخيار المدني-الديمقراطي في مواجهة الاستقطاب الطائفي تقف عند قشور المشكلة الطائفية من دون النفاذ إلى جذورها، ذلك أنّنا لسنا أمام مشكلة ذات طابع إداري، بل نحن أمام مشكلة فكرية في الأساس، وبدلا من انتظار الدولة حتى تمسح على مصباحها السحري لمعالجة الطائفية، لا بدّ من أن نتحلّى جميعا بالجرأة على محاكمة تاريخنا وتجفيف منابع اللاعقلانية في تراثنا.
المدنيّة خيار عقلانيّ، لأنّ عدم القبول بشروطها يعني القبول بشريعة الغاب، والديمقراطية خيار عقلانيّ، لأنّ رفض مبادئها يعني أنّ الحُكم لمن غلب، ومن هنا فإنّ الدولة التي تحكمها عقلية العشيرة لا تملك– مهما بلغت قدراتها المادية والمعنوية، ومهما أُتيح لها من وقت وجهد– أن تنتقل بمجتمع بدائي التفكير إلى رحاب المدنية والديمقراطية، فالعقلانية هي الجسر الذي ينبغي بناؤه لتحقيق هذا الانتقال، وبناء هذا الجسر يحتاج إلى ثورة فكرية تتجاوز مصادر المعرفة في حضارتنا، وتفضح المسكوت عنه في تراثنا، وتتصدّى للخرافة بكلّ تجليّاتها.
النزاع الطائفي، بصرف النظر عن المتسبّب به والمستفيد منه، يستقطب الطائفيين على طرفي النزاع فيفضح تفاقم عقدهم النفسية وتواضع قدراتهم العقلية، وأمّا أولئك ممن يقفون في المنتصف فينشغلون في محاولات رأب الصدع بين الطرفين، تارة باسم الدين، وتارة باسم الوطن، وكلها محاولات فاشلة، إذ من غير المنطقي اللجوء إلى الدين لحلّ نزاع موضوعه الدين في الأصل، ومن غير المعقول اللجوء إلى الوطن لحلّ نزاع موضوعه غير مرتبط بمفهوم الوطن في الأساس، فشعار "الوطنية" لا يعالج المسألة الطائفية، ذلك أنّ الانتماء إلى طائفة لا يتعارض بالضرورة مع الانتماء إلى وطن، لكن عندما نتبنى شعار "العقلانية النقدية"، فإنّ كلّ انتماء في حاجة إلى تبرير منطقي.
قد يساهم تبني الخيار المدني-الديمقراطي في تخفيف حدة الاحتقان الطائفي، بل قد يساهم أيضا في إخماد نار الطائفية، لكنه لن يستطيع أبدا القضاء عليها من دون إخضاع سخونة العاطفة الدينية إلى برودة العقلانية النقدية، فمن شأن العقل أن يعرّي تفاهة التعصّب المذهبي، ومن شأن النقد أن يؤصّل قيمة التواضع المعرفي.
لا ينبت الزرع على الصخر الأملس، وبالمثل، لا تنشأ المدنية والديمقراطية في بيئة لا عقلانية، بيئة لا يستحي فيها الطائفيّ من طائفيته، ولا يخجل فيها العنصري من عنصريته، ولا يتبرّأ فيها القبليّ من عصبيّته، بيئة تدفع فيها المرأة ضريبة مصادفة بيولوجية جعلت منها أنثى، وهي المصادفة البيولوجية ذاتها التي تقف وراء استفادة الرجل من مزايا الاستحقاق الذكوري! باختصار شديد، المجتمعات التي تفتقر إلى الحدود الدنيا من العقلانية تميل إلى التسامح المطلق مع الغباء بكل تجليّاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق