إمّا حرب أهلية وإمّا عودة إلى المربع الأول، هذان هما المسلكان– على ما يبدو– اللذان يشكلان ما آلت إليه الثورات العربية في السنوات الأخيرة، فالحروب الطاحنة جلبت الدمار لليمن وليبيا وسورية وأجزاء من العراق، وأما مصر وتونس فيبدو أن الأوضاع الداخلية فيها تسير باتجاه العودة إلى الأجواء السائدة في الحقبة الدكتاتورية السابقة، ولعلّ من المبكر جدا توجيه إصبع الاتهام إلى مَن يقفون وراء إجهاض الثورات العربية، لكن من العسير أيضا أن نعفي أطرافا ثلاثة من مسؤولياتهم عن وأد أحلام "الربيع العربي".
أول هذه الأطراف يشير إلى الدول العظمى التي انتهجت سياسة براغماتية في تعاملها مع شؤون الشرق الأوسط بشكل عام، ومع تطورات الثورات العربية بشكل خاص، ولعلّ أخطر ما يميز البراغماتية السياسية هو حرصها على اتخاذ قرارات تتيح جني فوائد آنية من دون أدنى اكتراث للتبعات الجسيمة التي قد تنتج عن تلك القرارات، كما أنّ أبشع ما يميّز البراغماتية السياسية هو استخفافها بمبدأ الاتساق في الموقف، وبالتالي خلوّها من أي بُعد أخلاقي في التعامل مع القضايا الإنسانية، ولعل النجاح المنقطع النظير للبراغماتية في ميدان السياسة هو المسؤول عن اختزال هذا الميدان في مسألة تحقيق "المصالح المشتركة"!
ثاني الأطراف المسؤولة عن إجهاض الثورات العربية يشير إلى دول مؤثرة في المنطقة، وتأثير بعض هذه الدول ناتج عن وفرة مادية أتاحتها موارد طبيعية، وعن مرجعية دينية أتاحتها ظروف تاريخية، وقد رمت هذه الدول الثيوقراطية بكل ثقلها المادّي في سبيل إجهاض الحلم العربي والمتمثل بشعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ونظرا للتحالف الاستراتيجي لهذه الدول مع الغرب البراغماتي، فإنّ سياساتها لا تقلّ براغماتية عن سياسات الدول العظمى، فشعار "حق الشعوب في تقرير مصيرها" يُرفع جنبا إلى جنب مع شعار "حق الشرعية السياسية في الدفاع عن استقرار مجتمعاتها"!
يبقى الطرف الثالث والمسؤول عن إجهاض ثورات الشعوب العربية، ونعني به الإسلام السياسي المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين وجميع الحركات الجهادية التي خرجت من عباءتها، وهنا تحديدا تتجسّد البراغماتية بأشنع صورها، وأعني بها الميكيافيلية التي تقف وراء تعاطي "الجماعة" مع الثورات العربية منذ اندلاعها حتى وقتنا الراهن، ومن مظاهر هذه الميكيافيلية ما شهدناه من تردد "الجماعة" في اتخاذ قرار المشاركة في الثورة المصرية فور قيامها، وهو التردد الذي تفضحه البيانات الصادرة عنها في الأيام الأولى من الثورة، والتي لم تتجرّأ فيها على مجرد الإشارة إلى كلمة "ثورة"، ولم يكن نهج "الجماعة" مختلفا في تونس واليمن وغيرهما، فقرار ركوب الموجة الثورية كان يأتي دائما بعد أولى بوادر خروج الحلقة الأضعف من الصراع، والميكيافيلية الإخوانية لا تقف عند هذا الحدّ، فقد شهدناها في موقف "الجماعة" من الحرب على اليمن، وشهدناها في موقف بعض الدول المتحالفة مع "الجماعة" من الثورة السورية، ونشهدها حاليا من خلال الدعوات إلى "الجهاد" في سورية بعد استهداف الحركات الجهادية المحسوبة على "الإخوان" من قبل القوات الروسية، فلا شيء يستطيع أن يكبح جماح هذه الميكيافيلية المتعطشة إلى السلطة حتى إنْ أريقت دونها دماء الملايين من البشر، وحتى لو تطلّب الأمر استنساخ النموذج الأفغاني وإعادة إحياء أدبيات "كرامات المجاهدين".
لا نجاح لأيّ ثورة عربية من دون قيام ثورات مادية في الغرب، وأخرى فكرية في الشرق، فالأولى من شأنها أن تعصف بالأسس الاقتصادية للدول العظمى وتعيد للغرب إنسانيته، والثانية من شأنها أن تعصف بالأسس الأيديولوجية لدول المنطقة وتعيد إلى الشرق حِكمته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق