حظيت أحداث باريس الإجرامية باهتمام واسع من وسائل الإعلام العالمية، ومن بين كلّ المآسي الإنسانية في اليمن وسورية وليبيا وغزة والقدس المحتلة وأوكرانيا ولبنان والعراق والنيجر ونيجريا وتشاد وغيرها من بقاع الأرض، استقطبت مأساة باريس أنظار العالم أكثر من أي مأساة أخرى، الأمر الذي أدّى– بطبيعة الحال– إلى بروز السؤال الاستنكاري: لماذا باريس وليس "س"؟ أما قيمة "س" فتعتمد على ميولك الأيديولوجية، فهي تشير إلى سورية أو غزة إذا كنت ممن يقبضون أيديهم في الصلاة، وهي بيروت أو اليمن إذا كنت ممن يُسدلونها.
لماذا يتباكون على فرنسا ولا يبكون على سورية؟ هذا سؤال ملغوم، ولكنّ اللغم من النوع المغشوش، فالاختلاف في تصريف الفعل "بكى" يفضح تمايزا غير موضوعي بين مشاعر توصف بأنها مزيفة وأخرى توصف بأنها حقيقية، كما أنّ هذا السؤال– عندما يكون موجها لبني جلدتنا- ينطوي على افتراض ضمني مفاده أنّ سورية تنبغي أن تكون أولوية بالنسبة إلى كل عربي أو مسلم، وبهذا نكون قد نهينا عن خلق وأتينا مثله، فحرام على الغرب المسيحي أن يجعل من أحداث باريس أولوية، وحلال علينا أن نجعل من أحداث سورية أولوية، وهنا لا بدّ أن نتساءل: ألا يشي هذا التناقض بأننا نعوّل كثيرا على إنسانية الإنسان الغربي من جهة، وعلى أيديولوجية الإنسان الشرقي من جهة أخرى؟
ليس هناك أدنى شك في أن مآسي سورية واليمن– مثلا– أشد قسوة على النفوس من مأساة باريس، ولكن المعضلة تكمن في أنّ غالبية المطالبين بتسليط الأضواء على ما يجري في سورية لا يكترثون بما يجري في اليمن، كما أنّ غالبية المطالبين بفضح ما يجري في اليمن لا يحفلون بما يجري في سورية، وبذلك أصبحت الإنسانية مجرد بضاعة معروضة في سوق الأيديولوجية، نختار منها فقط ما يتناسب مع معتقداتنا الدينية.
لا تحفل حكومات العالم الأول بمصير شعوب العالم الثالث، وكفى بتاريخ الاستعمار شاهدا على هذه الحقيقة، لكنّ في العالم الأول شعوبا خرجت في مسيرات عارمة نصرة لقضايانا، في حين أننا لم نشهد حتى هذه اللحظة مظاهرة واحدة فقط ضد حرب لسنا فيها الضحية، أو لا تربطنا مع الضحية رابطة دم أو دين، فنحن– مع الأسف– لا ندين حربا إلا إذا كنا ضحاياها، ذلك أن مبدأ الخروج إلى الشارع لا يبدو مرتبطاً برفض الحرب كمفهوم لا إنساني، بل لنصرة ضحية تنتمي إلى المربع ذاته.
التعاطف الإنساني مع مأساة الأقرباء أشدّ من التعاطف الإنساني مع مأساة الغرباء، وهذه هي طبيعة البشر، لكنّ الذي ليس من طبيعة البشر هو أن نقصر مثل هذا التعاطف على المقرّبين منا، وقد تبلغ الحالة المرضية ببعضنا درجة النشوة والتشفّي بمصاب الآخرين، وهذا لعمري انحدار إلى أدنى دركات الدناءة الروحية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق