هل من الممكن أن تنتج عن الجشع الفردي منفعة عامة؟ هذا السؤال يستحضر في الأذهان "اليد الخفية للسوق"، وهي استعارة أشار إليها "آدم سميث" في القرن الثامن عشر ليؤكد أنّ الفرد الذي تُحرّكه المصلحة الشخصية في سلوكه الاقتصادي يساهم من حيث لا يدري في الارتقاء بالمصلحة العامة، وهذه هي إحدى الحجج التي يلجأ إليها الكثيرون للدفاع عن أخلاقية النظام الرأسمالي، لكن بالرغم من التحذيرات المتكررة التي أطلقها "أووين" و"بولانيي" حول تفاقم حجم الهوّة بين الأخلاق والاقتصاد في ظلّ الرأسمالية المتوحشة، لم تفلح الحقبة الكينزية في ردم تلك الهوّة إلى أن جاءت النيوليبرالية لتعلن طلاقا بائنا بينهما، ونريد من خلال هذا المقال الإشارة إلى طبيعة العلاقة بين الأخلاق والاقتصاد من جهة، والمصير الذي آلت إليه في ظل النظام الرأسمالي النيوليبرالي.
مع أول عملية مقايضة أجراها الإنسان البدائي من خلال استبدال سلعة بسلعة أخرى، بدأت العلاقة بين الأخلاق والاقتصاد، ولهذه العلاقة وجهان على الأقل: أولا، كلاهما ذو طابع اجتماعي، أي أنّ إمكانية وجودهما مرهونة بوجود مجتمع، وثانيا، كلّ قرار اقتصادي يستدعي بالضرورة سؤالا أخلاقيا، ذلك أنّ كل سلوك اقتصادي له بالضرورة تبعات، ليس على حياة الفرد متّخذ القرار فحسب، بل على حياة غيره من الأفراد المنتمين إلى المنظومة الاقتصادية نفسها، ولعلّ القارئ قد لاحظ ارتباطا بين هذين الوجهين، فالطبيعة الاجتماعية للاقتصاد هي التي تجعل منه موضوعا للأخلاق.
مع بروز أصولية السوق في سبعينيات القرن الماضي، بدأت القطيعة الممنهجة بين الأخلاق والاقتصاد، وأحد ملامح هذه القطيعة نجدها في الوسط الأكاديمي، حيث تخلو أغلب البرامج الجامعية في ميدان الاقتصاد من الإشارة إلى بُعده الأخلاقي، وفي المقابل تزخر هذه البرامج بالأرقام والمعادلات المجرّدة، وهي الحالة التي تعكس محاولات دؤوبة إلى الانتقال بعلم الاقتصاد من ميدان العلوم الاجتماعية التقليدية إلى ميدان العلوم الرياضية المحضة، كما تعكس أيضا نظرة تشككية بالقيمة العلمية لميدان الأخلاق الذي لا يعدو أن يكون فصلا من فصول الفلسفة، ومن المهم هنا التأكيد على النقطة التالية، وهي أنّ هذه القطيعة الأكاديمية بين الأخلاق والاقتصاد لا تنفي، وليس بمقدورها أن تنفي، الطابع الاجتماعي لميدان الاقتصاد، ولكنها تعتمد على استراتيجية حوسبة الاقتصاد التي ساهمت في التباعد الممنهج بين ميدان الاقتصاد وميدان الأخلاق، الأمر الذي أدّى بدوره إلى التقليل من شأن الأبعاد الأخلاقية لعلم الاقتصاد.
الملمح الآخر من ملامح القطيعة بين الأخلاق والاقتصاد يكمن في استحالة الجمع بين مقولات النيوليبرالية وحقوق الإنسان من دون الوقوع في تناقض أخلاقي، فمعظم الدول الرأسمالية تدافع عن المبادئ الإنسانية الكبرى من خلال خطابها السياسي، ولكنها تخون هذه المبادئ من خلال سلوكها الاقتصادي، كما أنّ دفاعها عن حقوق الإنسان يقتصر فقط على تلك الحقوق التي تنسجم مع النموذج النيوليبرالي، ولهذا يتم التركيز على الحقوق المتعلقة بحريات التفكير والتعبير والمُلكية، في حين يتم إغفال الحقوق المتعلقة بالحد الأدنى للأجور والعمل والصحة والتعليم وغيرها من ضمانات الحياة الكريمة، ولهذا أيضا تدافع الدول العظمى عن السلام من جهة، وتبيع السلاح من جهة أخرى، ولكن في ظلّ عقيدة أصولية السوق ليس هناك تناقض بين السلام والحرب، فالأول ضروري لاستقرار الأسواق، والثاني ضروري لتنشيطها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق