الإنسان غاية في ذاته، والمال مجرّد وسيلة، لكن من شأن الجشع أن يقلب الموازين ليصبح المال غاية في ذاته، والإنسان مجرّد وسيلة، كما أنّ الجشع ينطوي على مفارقة تكشف عن عمق الهوّة بين الأخلاق والاقتصاد، فالجشع رذيلة أخلاقية وفضيلة اقتصادية، وإذا كان الجشع هو إحدى الخطايا السبع المميتة في التراث المسيحي، فإنه يشكّل أيضا الأساس الذي تقوم عليه عقيدة السوق، وهي سوق تنعم بالحرية بالقدر الذي يزداد فيه الإنسان عبودية، وهذه نتيجة طبيعية لنظام اقتصادي يضفي قيمة اقتصادية على رذيلة أخلاقية.
هناك فرق كبير بين طلب الرزق وطلب الربح، فالأوّل وسيلة يعتاش منها المرء، والثاني غاية يُدمن عليها المريض، وإحدى أهم مشكلات عصرنا الحاضر على وجه الخصوص هي أنّ العالم بأكمله تديره أقلية مريضة، أقلية تعبد إله الرومان "ميركوريوس" (إله التجارة واللصوص)، وتتفانى في أداء طقوس الجشع، حيث تطغى المادة على الروح، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت رنين الدراهم!
نستطيع أن نفهم حرص عبيد "ميركوريوس" على جني الأرباح، ولكن ما يثير الاشمئزاز هو أن تُجنى الأرباح على حساب الحفاظ على أرواح البشر، وملامح هذا الجشع الذي لا يقيم وزنا لقيمة الإنسان أكثر من أنْ تُحصى، منها عقد صفقات بيع الأسلحة في مناطق متخمة بالنزاعات والحروب، وفرض سياسات اقتصادية على دول بأكملها لنهب ثرواتها والإمعان في إفقارها، وعدم التورّع عن إشعال الحروب للسيطرة على موارد الطبيعة، وعدم احترام الحدّ الأدنى الذي يضمن كرامة الإنسان في بيئة العمل، وتسهيل حركة رؤوس الأموال عبر القارات في الوقت الذي لا يستطيع فيه لاجئ أن يعبر الحدود من دولة إلى أخرى!
كثيرة هي أدبيات اليمين السياسي التي تؤكّد علاقة الاعتماد المتبادل بين الرأسمالية والديمقراطية، فكلّما اشتدّ عود إحداهما قَوِيَ ظهر الأخرى، ولكن الحقائق التاريخية تشير، أولا، إلى أنّ الديمقراطية الحديثة لم تزد على أنْ استبدلت سلطة الجاه بسلطة المال، وبذلك تكون البلوتقراطية (حُكم الأثرياء) هي ثمرة التزاوج غير الشرعي بين الرأسمالية والديمقراطية، كما أنّ الحقائق التاريخية تشير، ثانيا، إلى أنّ فرصة ازدهار الديمقراطية في ظلّ نظام رأسمالي منضبط أكبر بكثير من فرصة ازدهارها تحت وطأة نظام رأسمالي منفلت.
الجدير بالذكر أنّ "انضباط" الرأسمالية قبل انفلاتها في العقود الأخيرة، وبالأخص ظهور "دولة الرفاهية"، لم يكن ناتجا عن إعادة النظر في القيم العليا للنظام الرأسمالي، بل جاء ضمن محاولات تاريخية لجعل الانضمام إلى الاتحادات العُمالية أقلّ جاذبية، كما أنّ أغلب المكاسب التي ينعم بها الموظفون والعمّال اليوم، مثل الحدّ الأدنى للأجور والحدّ الأقصى لساعات العمل، هي ثمرة كفاح أجيال رفضت أن تقدّم أرواحها قُرباناً لجشع أقلية لا إنسانية، وما أصدق "خوان كارلوس مونيديرو" حين كتب يقول: "صراعات الأمس هي حقوق اليوم، وصراعات اليوم هي حقوق الغد"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق