هو إنسان فوق العادة من نواحٍ مختلفة، فهو خارق الذكاء وغريب الأطوار، كما أنّ مَن يعرفونه حقّ المعرفة يُكبرون فيه صِدقه الذي يبلغ حدّ السذاجة، ونُبله الذي يُضاهي نبل الفُرسان! تقتحمه العين وتزدريه في ثيابه البالية، ولكنّ له نفسا تعاف ما تزاحم الناس عليه، كيف لا وقد داس بحذائه المتهرئ بريق المال وسحر الشهرة؟ اسمه "غريغوري بريلمان"، وهو رجل روسيّ من أصول يهودية ويبلغ من العمر 49 عاما، يسكن شقة متواضعة مع أمه في مدينة سان بطرسبورغ، وقصته فيها من الدروس ما يجعل عبيد المال والشهرة يتوارون خجلا، هذا مع افتراض قدرتهم على الخجل!
حصل "بريلمان" على درجة الدكتوراه في الرياضيات في أواخر الثمانينيات، ثم قرّر مغادرة روسيا والذهاب إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أن حصل على بعثة مدفوعة الأجر من أحد المراكز البحثية، وقد تركت تجربة العيش في مجتمع غارق في المادية أثرا بالغا في نفسه، فبعد أن مكث هناك بضع سنوات قرر العودة من جديد إلى روسيا، وقد نقل أحد المقربين منه قوله: "في أميركا تستطيع أن تشتري أو تبيع معادلة رياضية"، كما أعرب عن ضجره مما لمسه هناك من حرص علماء الرياضيات على الشهرة والمال أكثر من حرصهم على أخلاقيات البحث العلمي، فالتعاون بين العلماء يكاد يكون معدوما من فرط السرية التي يفرضها كلّ باحث على نفسه خشية أن يسبقه أحد إلى حلّ مسألة رياضية شائكة، ومن ضمن تلك المسائل الرياضية ما يعرف باسم "حدسية بوانكاريه"، وهي مسألة تتعلق بالأشكال المجردة في ميدان الرياضيات المحضة، وقد عجزت أفضل العقول الرياضية عن إثباتها لأكثر من قرن كامل، وهي إحدى المسائل السبع التي قام معهد "كلاي للرياضيات" في عام 2000 برصد جائزة بقيمة مليون دولار لمن يعثر على حلّ لها!
بعد عودة "بريلمان" إلى روسيا في منتصف التسعينيات، وقبل الإعلان عن الجائزة، قرّر الاستقالة من عمله والتفرّغ لمحاولة حلّ "حدسية بوانكاريه"، فأمضى أكثر من سبع سنوات في عزلة شبه تامة إلى أن استطاع العثور على حلّ، وبدلا من إرسال الحلّ إلى مجلة علمية محكّمة للمحافظة على حقوقه المتعلقة بالملكية الفكرية، قام بنشر أوراق الحل التي تجاوزت الستين صفحة على شبكة الإنترنت!
أمضى علماء الرياضيات سنوات للتحقق من صحة نتائج "بريلمان"، وحاول علماء آخرون سرقة تلك النتائج ونسبها إلى أنفسهم بعد إجراء بعض التعديلات عليها، إلى أن أُعلن رسميا عن صحة نتائج "بريلمان" وترشيحه لنيل ميدالية "فيلدز"، وهي بمنزلة جائزة نوبل للعلوم الأخرى، ثم تأتي المفاجأة برفض "بريلمان" الجائزة! سافر أحد علماء الرياضيات المشهورين إلى "سان بطرسبورغ" في محاولة لثني "بريلمان" عن قراره ففشل، وفي احتفال مهيب في مدريد وبحضور ملك إسبانيا السابق، يُذاع اسم "بريلمان" لمنحه الميدالية التي طالما حلُم بها الكثيرون، ولكن لا أثر له بين الحاضرين!
ثم يعلن معهد "كلاي للرياضيات" الوفاء بوعده بتسليم مبلغ مليون دولار كجائزة لصاحب الحلّ، ولكنّ "بريلمان" يرفض من جديد تسلّم الجائزة كما رفض غيرها العديد من الجوائز، ثم يبعث برسالة إلى القائمين على الجائزة يقول فيها إنّ عالم الرياضيات الأميركي الشهير "ريتشارد هاملتون" أحقّ منه بالجائزة، فلولا استفادته من بحوث هذا الأخير لما استطاع العثور على الحلّ! ثم تنهال العروض عليه للعمل في أرقى الجامعات حول العالم فيرفض، وتتقاطر عليه الصحافة العالمية طمعا في مقابلة واحدة فقط فيرفض، ويُذكر أنه قال لأحد المراسلين من المتطفلين على باب شقته: "أرجوك أن ترحل من هنا، فأنا لست حيوانا معروضا للمشاهدة في حديقة الحيوان، وعملي واهتماماتي ليست من شأنكم"! وأمّا الوسط العلمي فقد نقل أحد أصدقاء "بريلمان" عنه قوله إنّ الكثير من علماء الرياضيات يحرصون على تسويق ذواتهم بأي ثمن، وإزاء مَن حاولوا سرقة جهوده نُقل عنه قوله: "ليس كلّ علماء الرياضيات لصوصا، فأغلبهم يتمتع بالنزاهة، لكنّ معظمهم يتسامح مع اللصوص مع الأسف فيلتزم الصمت"، "بالنسبة إلى الرياضي الذي يعثر على حلّ لمسألة شائكة، ليس هناك اعتراف أجلّ وأشدّ من الإيمان العميق بأنك عثرت على الحلّ المطلوب، وأمّا الجوائز والألقاب فلا مكان لها في نفسي"!
لا يزال "بريلمان" يعيش مع أمه في شقة متواضعة، ويُقال إنه طلّق الرياضيات إلى غير رجعة، ويحسبه مَن لم يفهموه مجنونا، فالمجنون في عصرنا المادي والاستهلاكي هو الذي ينفر من بريق المال ويترفّع عن سحر الشهرة، ومع ذلك يبقى "بريلمان" إنسانا نزيها ومخلصا لمبادئ أسمى من أن يستوعبها عبيد المال والشهرة، وما يراه ذوو النفوس الصاغرة مقدّسا لا يعدو في كثير من الأحيان أن يكون تافها عند ذوي النفوس الأبية!