المعرفة العلمية ذات طبيعة تراكمية، فما يعرفه اللاحقون يفوق بمراحل ما يعرفه السابقون، ولهذا فإنّ من الطبيعي القول إنّ الطلاب البارزين في أي ميدان من ميادين المعرفة في وقتنا الحاضر يفوقون «ابن رشد» و«ابن الهيثم» و«الرازي» و«الخوارزمي» في درايتهم بعلوم الفلسفة والفيزياء والطب والرياضيات، ومن الملاحظ أنّ النقيض من ذلك ينطبق على المعرفة الدينية ذات الطبيعة التناقصية، حيث كمال المعرفة مرتبط بمدى القرب الزماني من مصدرها، وحيث يفوق ما يعرفه السابقون ما يجهله اللاحقون!
لعلّ أهم ما يميز الطبيعة التراكمية للمعرفة العلمية هو إتاحة الفرصة أمامنا لطرح أسئلة لم يكن من المنطقي أن تخطر في بال السابقين، ونريد من خلال هذا المقال تسليط الضوء على أحد هذه الأسئلة، وهو التالي: ما المعارف التي، لو كانت متوافرة في تراثنا الإسلامي، من شأنها تلافي، أو على الأقل، التخفيف من حدة النزاع بين طرفين أو أكثر حول مسألة فكرية؟ على سبيل المثال، ما أثر عدم توافر نسخة عربية لكتاب «السياسة» لأرسطو على الفلسفة الإسلامية في عصر ازدهارها؟ وما أثر عدم دراية المعتزلة باللامتناهيات الرياضية على معاركهم الفكرية مع خصومهم حول مسألة صفات الله؟
من سوء حظ الفلسفة الإسلامية أن يحظى كتاب «الجمهورية» لأفلاطون بترجمة عربية في مقابل عدم ترجمة كتاب «السياسة» لأرسطو إلاّ بعد قرون طويلة، ولعلّ أحد أهم الآثار المترتبة على ذلك هو تكريس النزعة الشمولية في الحُكم في مقابل غياب النزعة التعددية، فالديمقراطية التي أسهب أرسطو في تحليلها ظلّت غريبة عن ثقافتنا لقرون طويلة، في حين أن الدكتاتورية التي بشّر بها أفلاطون بدت منسجمة مع تراثنا منذ الوهلة الأولى.
من زاوية أخرى، سار المعتزلة على أثر أرسطو في تبنيهم إحدى البدهيات التي تقول إنّ «الكلّ أكبر من الجزء»، واتخذوا منها أساسا للدفاع المستميت عن قضايا فكرية في مواجهة خصومهم، كمثل قضية «صفات الله»، والمعتزلة وخصومهم معذورون على حدّ سواء في قبولهم بصحة هذه البدهية، فلو خرج علم الرياضيات اللامتناهية في وقت مبكر لعلموا أنّه ليس من الضروري أن يكون الكلّ أكبر من الجزء، بل قد يتساوى الاثنان أحيانا، فعلى سبيل المثال، مجموعة الأعداد الفردية جزء من مجموعة الأعداد الطبيعية (فردية وزوجية)، ومع ذلك فإن كلّ عدد فردي يقابله عدد طبيعي إلى ما لا نهاية، مما يعني أنّ مجموعة الأعداد الفردية تحتوي على عدد من الأرقام مساو لعدد الأرقام في مجموعة الأعداد الطبيعية:
1 3 5 7 9 11 13 15 17 ....
1 2 3 4 5 6 7 8 9 ....
بطبيعة الحال، ليس بوسعنا سوى أن نلتمس العذر للسابقين في عدم درايتهم بعلوم لاحقة على عصرهم، لكن في المقابل، ليس بوسعنا سوى أن نستنكر حرص اللاحقين على عدم تجاوز معرفة السابقين، فالمتأمل في الأدبيات الدينية الحديثة حول قضايا الفلسفة الإسلامية يُلاحظ فقرا معيبا من حيث الإلمام بالحد الأدنى من العلوم الجديدة، كما أنّ هناك بحوثا ورسائل دكتوراه يُسلّم أصحابها دون تردد بحتمية أنّ يكون «الكلّ أكبر من الجزء»، ومع ذلك تجد مثل هذه الكتابات طريقها إلى الإجازة والنشر، حتى عندما يتعلق الأمر بقضايا ومعارف علمية معاصرة، فإنّ الإلمام في هذه الحالة يبلغ من الضحالة بحيث ينصبّ التركيز على محاولة إثبات أنّ ما يعرفه اللاحقون لا يتجاوز ما جاء به السابقون، وخير مثال على هذه الحالة المزرية هو ما نجده في تلك الأدبيات التي تُعنى بما يسمى «الإعجاز العلمي»، ولعلّ ذلك كله ينسجم مع طبيعة المعرفة الدينية، كما ذكرنا في بداية هذا المقال، وهو منسجم أيضا مع موقف لا عقلاني من الحضارة الإنسانية، موقف يكاد يكون صبيانيا في إصراره دائما على امتلاك «الكلمة الأخيرة» في كلّ قضية!