قبل الدخول في موضوع هذا المقال، لا بدّ أولا من توضيح نقطة لتفادي أي التباس محتمل، وهي أنّ هناك فرقا بين أولئك الذين عقدوا النية على المشاركة في الانتخابات القادمة، وأولئك الذين تجاوزا ذلك إلى محاولة حثّ الآخرين أيضا على المشاركة، وموضوع مقالنا هذا يقتصر على هذه الفئة الأخيرة فقط، ولعلّي شخصيا مجبر على هذا التوضيح لما شهدته في الماضي من التباس وقع فيه عدد غير قليل، ومنهم أصدقاء أكنّ لهم كلّ احترام وتقدير، فقد سبق أن كتبت هنا في "الجريدة" في نوفمبر من عام 2012 الفقرة التالية:
"الرأي، أي رأي، لا يكتسب احتراماً لمجرد أنه رأي، بل إن مسألة الاحترام متعلقة بمحتوى هذا الرأي، والرأي الداعي إلى المشاركة في الانتخابات لا يستحق الاحترام، لأن ضريبة هذا الاحترام هو النيل من كرامة المواطن، ولا يدفع هذه الضريبة إلا الذي لا يقدر نفسه حق قدرها!".
للأسف، وبالرغم من هذه الإشارة الواضحة إلى "الرأي الداعي إلى المشاركة"، يصرّ البعض على أنّ الأمر متعلق بقرار المشاركة، في حين يذهب البعض الآخر إلى حدّ اعتبار الأمر متعلقا بكلّ فرد قرّر المشاركة! ليس بوسعي هنا سوى التذكير بحقيقة يعرفها الجميع، وهي أنّ كلّ كاتب مسؤول عمّا يكتب، لا عن فهم الآخرين لما يكتب، أو بعبارة أخرى أكثر لباقة: الكاتب مسؤول فقط عن الرحلة من المعنى إلى الرمز، لا عن رحلة العودة من الرمز إلى المعنى.
نأتي الآن إلى موضوع المقال لنتساءل: من هم دعاة المشاركة؟ إذا استثنينا الأصوات الصاخبة من ذوي الطموح الفردي للوصول إلى المجلس بأي ثمن، فإن بوسعنا الحديث عن صنفين من دعاة المشاركة، صنف يحلّق خارج فضاء السلطة، وصنف يقبع داخل كنفها، ولا يقتصر الاختلاف بينهما على اختلاف المسافة التي تفصل كلّا منهما عن السلطة، فهناك أيضا اختلاف متعلق بالسبب الذي يدفع كلّا منهما إلى دعوة الآخرين إلى المشاركة، فأحدهما يدعو إلى المشاركة بعد أن يئس من جدوى المقاطعة، والآخر يحذّر من المقاطعة كي يضمن أكبر قدر من المشاركة.
بالرغم من حسن نوايا الصنف الأول، وبالرغم من مكانة بعضهم التي هي محلّ احترام الجميع، فإنّ من الصعب تبرير دعوتهم إلى المشاركة في الانتخابات القادمة، ليس فقط لتهافت أسباب جدوى المشاركة كما ذكرنا في مقال سابق، بل لأنّ دوافع دعوتهم، كما هو واضح، ليست سوى دوافع نفسية، بعضها متعلق باليأس من مقاطعة لم تسفر عن شيء، وبعضها مرتبط بالأمل في مشاركة قد تأتي بشيء، لكن الدوافع النفسية تبقى متعلقة بالفرد من حيث هو فرد، وإذا كان من حقّ اليائس أن يشارك أملا في تحقيق واقع جديد، فليس هناك ما يبرّر دعوته الآخرين إلى المشاركة استنادا إلى حالته النفسية، إلّا إذا كان يظنّ واهماً أنّ الجميع يشاطرونه دوافعه النفسية! بل حتى مع افتراض صحة هذه النقطة الأخيرة، ليس من الضروري أن يتفق الجميع على أنّ الحلّ الوحيد للخروج من فشل المقاطعة هو المشاركة، فالمقاطعة التي تفشل تحتاج إلى إنجاحها، لا إلى وأدها.
يبقى الصنف الآخر من دعاة المشاركة، أولئك الذين يؤدون دور "الحكيم"، ويقدمون المواعظ إلى مَن تابوا عن مشاكسات الماضي وعادوا إلى "جادة الحق"! أولئك الذين استطاروا غضبا من "لغة العنف" في الساحات والميادين، وطاروا فرحا بأفعال العنف ضد المتظاهرين! أولئك الذين يرون الحكمة في قلوب شَبِمة، والحماقة في عقول متّقدة، والذين لا يخجلون من نفاق السلطة في كلّ مناسبة ومن غير مناسبة، ولا يتورّعون عن الكذب من دون أدنى قطرة حياء، كيف لا وأقصى طموحهم هو أن يرضى أولو نعمتهم عن دورهم الكبير في تدجين ما تبقّى من "المشاكسين"!
هناك تعليق واحد:
يعطيك العافية دكتور على المقالات الخمس الأخيرة رغم إني أعتقد المقال الأخير (من هم دعاة المشاركة) كان ممكن يكون أوضح وأسهل من جذيه.
تحياتي
إرسال تعليق